{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} معالجات قرآنية لعدم الإنفاق

| |عدد القراءات : 306
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}

معالجات قرآنية لعدم الإنفاق ([1])

 قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء: 100)، قلْ يا رسول الله للكافرين والمعاندين الذين أكثروا المقترحات المذكورة في الآيات السابقة، عناداً واستكباراً وجدالاً أنه لو كانت خزائن رحمة الله تعالى على سعتها بأيديكم وتحت تصرفكم لامتنعتم من الإنفاق وإعطاء العباد احتياجاتهم مدّعين خوف الفقر إذا أنفقتم، والأمر ليس كذلك لأن خزائن رحمة الله لا تنفد (ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً)([2])، لكن البخل والإمساك والتضييق أصبح صفة لازمة في نفوسكم الأمّارة بالسوء.

لقد جُبِل الإنسان على حب المال، قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20) وليس في ذلك نقص ذاتي، فلو كان حب كسب المال من أجل التقرب إلى الله تعالى بإنفاقه في موارد البر والإحسان كالحج والعمرة وزيارة المعصومين (عليهم السلام) ومساعدة المحتاجين ونصرة الدين ونشر العلوم والمعارف النافعة وتزويج الشباب المتعففين وإنشاء المشاريع ذات النفع العام كالمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء وشق الطرق وغيرها، فإنه سيكون أمراً محموداً بلا إشكال وسيكون من طلب الآخرة وليس الدنيا.

وإنما تبرز المشكلة لو كان هذا الحب للمال يدفعه إلى تحصيله بأي نحوٍ كان ولو من طرق غير مشروعة، أو أن هذا الحب يكبّله عن دفع ما يتعلق بذمته من مال حيث جعل الله تعالى فيه حقوقاً لغيره {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19) وهذه الحالة هي التي ذمّها الله تبارك وتعالى، وتتحول بالانسياق المستمر لها إلى صفة متأصلة في النفس الإنسانية وتتغلب على نداء العقل والفطرة والدين وتميتها.

وهذه الصفة أصبحت غالبة لدى البشر حتى عدَّها الله تعالى من الصفات اللازمة للإنسان {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورً} (الإسراء: 100)، والإقتار هو التضييق في الإنفاق والبخل بالمال والإمساك عن بذله في موارد رجحانه، وصيغة (فعول) من صيغ المبالغة التي تدل على شدة الاتصاف، وقال تعالى في آية أخرى{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء : 53] والنقير هو الشق في النواة ويضرب مثلاً للشيء الضئيل، وقال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128) والشُّح هو ((بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة)) فهذه الصفة حاضرة لدى الإنسان ومشاهدة فيه بوضوح إلا مَن عصم الله تعالى فحررّهم من عبودية المال وغرائز النفس الأمّارة بالسوء وقد أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) (التغابن: 16).

وقد يبرّر الإنسان هذا الحرص على المال والخوف من الإنفاق بخوف الفقر والاحتياج في المستقبل فيدّخره للطوارئ حتى قيل في المثل (القرش الأبيض ينفعك في اليوم الأسود) إلا أنه يخدع نفسه، وتفضحه الآية الكريمة بأنه حتى لو ملك خزائن رحمة الله على سعتها وعدم نفادها، فإنه سيمتنع عن الإنفاق، لأن البخل والشح والحرص على المال صفة راسخة في نفس الإنسان.

وخزائن رحمة الله هي الجهات التي جعلها الله تعالى سبباً لاستدرار رحمته كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك)، وهي عامة تشمل العطاء المعنوي والمادي.

ولأن الله تعالى هو خالق الإنسان والبصير بما يعاني منه وما يصلحه فقد عالج هذه الصفة المذمومة المتأصلة من خلال عدة أساليب علمية وعملية للدخول إلى أعماق النفس الإنسانية وفتح مغاليقها وكبح جماحها، لتغيير خصالها وتهذيب صفاتها، ويمكن معرفتها من استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، منها:

1- الترغيب في الإنفاق من خلال بيان الآثار المباركة له في الدنيا والآخرة كمضاعفة الثواب  أضعافاً كثيرة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261) وأن الإنفاق سبب لغفران الذنوب ومحو السيئات، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271) وسبب للتثبيت على الهدى والصراط المستقيم في الآخرة {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 265) (لاحظ مثلاً سورة الحديد فإن فيها ربطاً متعدداً بين التوحيد والإنفاق) وأن الصدقة تستنزل الرحمة الإلهية والاطمئنان والسكينة، قال تعالى:  {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103) وغير ذلك.

وقد أخبرت الأحاديث الشريفة ببعض هذه النتائج المباركة كقول النبي (صلى الله عليه واله): (أرض القيامة نار ما خلا ظلَّ المؤمن، فإن صدقته تُظِّله) ([3])، وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (الصدقة تسدُّ سبعين باباً من الشرّ) ([4])، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أكثروا من الصدقة ترزقوا) ([5]).

ولم يكتفِ بذلك بل فرض حقوقاً يجب إيصالها إلى مستحقيها ولا يُعذر المتخلف عنها ولم يدع الإنفاق لرغبة الشخص، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] ثم بيَّن موارد كثيرة لاستحباب الإنفاق وهكذا.

2- ذم البخل والإمساك عن الإنفاق الراجح، واعتبارها صفة مذمومة مقيتة، ليتحرّك الإنسان التوّاق إلى الكمال والرقي والسعادة إلى معالجتها، وبيان أن البخيل لا ينفع نفسه بل يضرها، قال تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران: 180)، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (البخل جامع لمساوئ العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كل سوء)([6])، وروي عن الإمام الهادي (عليه السلام) قوله: (البخل أذمّ الأخلاق)([7])، ومما قيل من شعر الموعظة في البخيل:

يفني البخيل بجمع المال مدّتَه      لم يعتبر بأناس قبله جمعوا

كدودة القـزّ ما تـبنيه يهـلـكها    وغـيرهـا بالذي تـبنيه ينتفعُ

3- التحذير من سوء عاقبة المتخلفين عن الإنفاق كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35_34) وقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة: 30-34) وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون: 1-3) وقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}(المدثر 42-44) فهذه صور لعواقب فظيعة يكفي مجرد تصورها للإصابة بالذعر والهلع الشديدين ومنها قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195)، فقد جعلت عدم الإنفاق سبباً لوقوع الفرد والمجتمع في التهلكة بصورها المتعددة التي بيّناها في القبس السابق.

أما الأحاديث الشريفة فإنها تفوق حد الإحصاء ولا يسع المجال لذكرها نذكر أحدها وهو قول الإمام الباقر (عليه السلام): (الذي يمنع الزكاة يحوِّل الله ماله يوم القيامة شجاعاً (أي ثعبان) من نار له ريمتان ([8]) فيطوقه إياه ثم يقال له: الزمه كما لزمك في الدنيا، وهو قول الله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 180)) ([9]).

4- الوعد بأن الله تعالى يخلف على الإنسان ما ينفقه في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)، مضافاً إلى أنّ له أجر ما أنفق([10]) قال تعالى {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 272) وهذا الإيفاء متحقق في الدنيا والآخرة؛ لذا يتعجّب الإمام الصادق (عليه السلام) من البخيل ويستنكر فعله قال: (إن كان الخلف من الله عز وجل حقاً فالبخل لماذا!)([11]).

5- بيان حقيقة أن هذا المال ليس مملوكاً حقيقة للإنسان، وإنما هو وديعة لديه وأمانة استُخلف عليها وعمّا قريب تستردّ الوديعة ويرث الله تعالى الأرض وما عليها، قال تعالى معاتباً ومستنكراً: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: 10)،  وحينئذٍ يخرج الإنسان من الدنيا صفر اليدين { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} (الأنعام: 94) ولا يبقى له إلا ما أنفق في سبيل الله، وحينئذ لا يتردد عاقل في تقديم أكبر مقدار ممكن مما خوّله الله تعالى إلى حسابه الثابت في الآخرة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة : 110] [المزمل : 20] وعدم تركه وراءه بلا استثمار في ما ينفعه في حياته الباقية، قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد: 7) وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ*وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 10-11)، وسيندم الإنسان على بخله وعدم تقديم الزاد لآخرته، وسيلتمس من المؤمنين أن يسعفوه بقبس من نورهم ليضيء ظلمته في القيامة فيأتيه الجواب: { قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} (الحديد: 13) فإن الدنيا هي دار العمل واكتساب الحسنات والنور، وروت عائشة (أنَّهم ذبحوا شاةً فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ما بقيَ منْها؟ قلتُ ما بقيَ منْها إلا كتفُها. قالَ: بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها) ([12] فإن الباقي الحقيقي هو ما أُنفِق في سبيل الله وفي وجوه البرِّ والإحسان.

6- معالجة الإشكالات التي يوسوس بها الشيطان لمنع الإنسان من الإنفاق وعلى رأسها خوف الفقر، ولا يلتفت إلى أن الآمر بالإنفاق هو الرزّاق الكريم وبيده خزائن السماوات والأرض، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 268) والشيطان يُخوِّفكم من الفقر إذا أنفقتم قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) والتخويف هنا مطلق شامل لكل أسبابه وموارده،  فقال تعالى في الجواب: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 28) والعيلة تعني الفقر، ويقال عال الرجل إذا افتقر، وقد منَّ الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه واله) برفع هذه الحاجه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى: 8). ويتعجّب الإمام الصادق (عليه السلام) من هذا التناقض المثير للسخرية الذي يقع فيه البخيل، فقال (عليه السلام): (عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء) ([13]).

ويمكن أن يوسوس الشيطان من جهة مصداقية المستحق للإنفاق او وثاقة الوسيط في نقل المال المستحق، وهذه كُلُها لا تبرّر الامتناع عن الإنفاق وإنما توجب التثبت والتأكد من مورد الصرف والقائمين عليه ونحو ذلك.

7- إلفات النظر إلى أنهم إن لم ينفقوا المال في طاعة الله تعالى وما يوجب رضاه فإنهم سيبتلون بإنفاق ما هو أكثر منه في معصية الله تعالى ويجمعون عليهم خسارة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال: 36)، فهذه الأموال التي بخلوا بها عن طاعة الله تعالى سينفقونها في معصيته ([14]).

8- التعجيل في فعل الخير والمبادرة الى عمل المعروف لان التأنّي والتأخير يفسح مجال للشيطان أن يثير الوساوس لمنعه من الإقدام قال الإمام الباقر (عليه السلام): (من همَّ شيء من الخير فليعجلّه، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)[15]

ونحن وإن ركّزنا في الحديث على الإقتار والبخل و الشُّح بالمال إلا أنه شامل لكل موارد الإنفاق التي فصلناها في قبس سابق ([16])، كالبخل بالعلم والمعرفة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيضلّ ويكون سبباً لإضلال غيره، وهو أحد مصاديق قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 37) فعدّه الله تعالى أمراً بالبخل عملياً فيتحمل وزره ووزر من تأثر به.

وأسوأ درجات البخل وافظعه الامتناع عن الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولمحمد (صلى الله عليه واله) بالرسالة، وعدم أداء الواجبات الشرعية كالصلاة اليومية أو صوم شهر رمضان فإنه بخل فظيع، روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: (أبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه) ([17])، كما يروى عن أحد طواغيت قريش أنه أجاب النبي (صلى الله عليه واله) حين طلب منه أن ينطق بالشهادتين فقال: ((إن حمل الجبال الرواسي على ظهري أهون عليّ من النطق بهما)).

وهكذا من البخل كتمان كل شهادة حق، وعلى رأسها الشهادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية، قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] ومنها البخل على أهل بيت النبي (صلى الله عليه واله) بالمودّة، وهو حقهم الذي فرضه الله تعالى وجعله أجر تبليغ الرسالة، قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 23).

وتصل ذروة البخل بالامتناع عن أداء حق النبي (صلى الله عليه واله) وشكره على جهده وجهاده بالصلاة عليه وعلى آله عند ذكره، ففي الحديث النبوي الشريف: (إن أبخل الناس من ذُكِرتُ عنده ولم يصلِّ عليَّ) ([18]). وقال (صلى الله عليه واله وسلم): (البخيل حقاً من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ) ([19]).

       ومن موارد الشحّ ما ورد في تفسير الآية المتقدمة بالنسبة للمرأة بأنه: عدم ارتدائها اللباس الفاخر وترك التزين والامتناع عن تلبية احتياجات الزوج، فيعالج الشح بأداء حق الآخر وقد يتطلب التنازل عن بعض حقه لإيقاع الصلح قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128).

       ومن موارد المنع والإمساك أن يبخل الشخص بالسلام فلا يبتدئ أحداً بالسلام، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (البخيل من بخل بالسلام) ([20]).

       بل قد لا يردّ السلام مع وجوبه، وآخر يبخل بالكلمة الطيبة فلا يقول شكراً لمن قدَّم له خدمةً كزوجته مثلاً، وآخر لا يسدي معروفاً إلى أحد مع قدرته عليه.

 



[1] - قبس من نور القرآن في درس التفسير الأسبوعي يوم الأربعاء 12 شوال الموافق 3/5/2023.

[2] - من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك.

[3] - الكافي: 4/3، ح6.

[4] -بحار الأنوار: 96/132، ح64.

[5] - ميزان الحكمة: 5/ 70.

[6] - نهج البلاغة، الحكمة 378، راجع ميزان الحكمة: 1/ 351 للاطلاع على مزيد من الأحاديث.

[7] - بحار الأنوار: 72/ 199، ح 27.

[8] - كذا في جميع النسخ، وهكذا نقله في المستدرك أيضا، والصحيح " زبيبتان " تثنية زبيبة وهما نقطتان سوداوان فوق عيني الحية والكلب. يخيل للرائي أن لها أربعة أعين وإذا كانت كان عضها قتالاً.

[9] - بحار الأنوار: ج ٩٣ - ص ٨.

[10] - يوجد في إحدى الدول الأوروبية بنك للوقت تسجِّل فيه حساباً للوقت الذي تنفقه في خدمة الآخرين على نحو المداراة الصحية أو الأعمال المنزلية وغير ذلك وهذا الرصيد يُستفاد منه عند الاحتياج إلى المساعدة في الشيخوخة أو المرض أو أي سبب آخر فيأتي من يخدمك مدة تستقطع من الرصيد فهذا تطبيق لما افادته الآية الكريمة من أن الله تعالى يخلف على المنفق.

[11] - بحار الأنوار: ج 78/ 190، ح 1.

[12] - صحيح الترمذي: ح 2470.

[13] - بحار الأنوار: 72/ 199، ح 28.

[14] - راجع تفسير هذا القبس القرآني لمعرفة تفصيل الفكرة.

[15] - الكافي: 2/143، ح9.

[16] - راجع تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

[17] - بحار الأنوار: 73/ 300، ح 2.

[18] -كنز العمال:2144.

[19] - بحار الأنوار: 73/ 306، ح 28.

[20] - معاني الأخبار: 246/ 8.