حرمة ما يُعرف بـغسيل الأموال

| |عدد القراءات : 374
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

حرمة ما يُعرف بـغسيل الأموال

إني طالب ماجستير في جامعة المصطفى العالمية في قم المقدسة، وعندي بحث حول غسيل الأموال مقارنة بين الفقه والقانون، وهو من المسائل المستحدثة، ولقد بحثت كثيرا في الفتاوى والاستفتاءات ولم أجد رأيا فقهيا لعلمائنا حوله، ولما كان من المهم جدا طرح رأي فقهاء الشيعة بالمسألة المذكورة مع ذكر مستندها الفقهي، فقد توجهت إليكم طالبا بيان رأيكم الفقهي في مسألة غسيل الأموال أو (تبييض الأموال)؟

بسمه تعالى

(غسيل الأموال) عملية تخريبية لاقتصاد البلدان، ومفسدة لأخلاق الناس، وسالبة لدينهم، وتوفر بيئة مناسبة للانحراف والجريمة، وكانت ممارستها في البداية محصورة بيد مافيات الجريمة والعصابات ورؤوس الفساد والتخريب، إلا إنها تحولّت إلى ظاهرة عامة ومدّمرة انحدر إليها الكثير من الساسة والسماسرة ورجال الأعمال وناهبي ثروات الشعوب.

 وقد التفت العالم المتحضر إلى خطورة هذه الظاهرة، فبادر إلى عقد المؤتمرات والندوات على أعلى المستويات، للتشاور في كيفية مكافحة هذه الظاهرة ووضع الآليات المناسبة لكشفها وتطويقها، وسنّ القوانين لتجريم المتعاملين بها، وتثقيف المجتمعات بخطورتها، والعقوبات الصارمة التي توجبها، وإن كانت هذه المؤتمرات لم تحقق شيئاً حتى ما كان منها على مستوى القمة، لعدم الجدّية والمصداقية لدى القائمين عليها بل هم الذين يديرونها، ولا زالت هذه الظاهرة الخبيثة تزداد نخراً في الدول والمجتمعات.

أما من الناحية الشرعية، فالظاهر أن ثلاثة عناصر تؤثر في حكم المسألة:

1-    المغسول: أي الأموال التي يراد غسلها، فقد يكون مصدرها محرماً كالأموال المكتسبة من عمليات السرقة الخاصة والعامة، وتجارة المخدرات وتهريب النفط والدعارة وتهريب البشر والرشوة والاختلاس وتزوير العملة والسمسرة ومكافآت أنشطة الجاسوسية والإرهاب وفدية الاختطاف.

 وغالباً ما يكون الهدف من غسيل الأموال هو تبييض مثل هذه الأموال وشرعنتها عبر التحويل المالي في البنوك، فإذا كان المال المغسول حراماً حرمت العملية كلها.

2-    الغاسل: أي الشخص أو الجهة المستفيدة من غسل الأموال، فقد تكون مما لا يجوز العمل لصالحها، كالتنظيمات الإرهابية ومافيات الجريمة والحكام المتسلطين على الشعوب بالحديد والنار والخارجين على القانون والمحرضين على العنف وتمزيق المجتمعات بالعنصرية والطائفية وهكذا، فتحرم عملية التحويل المالي وغسيل الأموال إذا كان المستفيد من هؤلاء الذين لا يجوز تقويتهم بالمال، وبغضّ النظر عن العنصر الأول للعملية.

ومثال ذلك بعض الذين يدعّون أنهم جمعيات خيرية فيجمعون الزكاة والصدقات والتبرعات ليرسلوها إلى الجماعات الإرهابية بدعوى أنهم مجاهدون وأمثال ذلك، فهذه العملية محرمة من جهة الغاسل.

3-    الغسل: أي الجهة أو الجهات التي تقوم بغسل الأموال وتحويلها والتوسط في العملية من بنوك أو سماسرة أو أي مؤسسات مالية أخرى فقد تحرم المعاملة من هذه الجهة لان من يجري عملية التحويل غير شرعي كالشركات الوهمية أو المشبوهة أو التي تدعم فساداً أو إرهابا أو أن القائمين عليها فاسدون.

ومما تقدم يظهر أن الحرمة يمكن أن تكون بأي سبب من هذه الثلاثة فضلاً عن مجموعها، ومضافاً إلى ذلك يوجد أكثر من سبب للحرمة، منها:

1-    إن العقلاء والمتخصصين أجمعوا على أن في العملية تخريباً اقتصادياً وغيره، وهذا منكر محرم سميناه وأمثاله بالمنكرات الاجتماعية، لذا فأنه غير مألوف كالمنكرات الفردية مثل شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك.

2-    إذا استعملت المؤسسات الحكومية – كالبنوك - في العملية، فأنه لا يجوز استعمالها – وجميع الممتلكات العامة – إلا بإذن الفقيه الجامع لشروط المرجعية والقيادة، وإلا يصبح التصرف حراماً، وعملية غسل الأموال غير مأذون بها شرعاً.

نعم يمكن استثناء بعض الحالات المذكورة للاضطرار، كمن يحتاج إلى تحويل مال خاص من أصل شرعي لأجراء عملية جراحية مضطر إليها في بلد آخر، ولا تسمح قوانين دولته بتحويل مثل هذا المبلغ، فيحوله على حساب عدة أشخاص أو يستفيد من بعض الثغرات القانونية، وهذه العملية قد لا تدخل أصلاً في عنوان غسيل الأموال، وإنما يبرّرها الاضطرار بشرط كون أصل المال حلالاً، قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة 173)، وفي الكلمة المشهورة (عند الضرورات تباح المحظورات).

هذه هي الحالات المتصورة والمعروفة لظاهرة (غسيل الأموال) بالمصطلح الاقتصادي، واستثمر هذه الفرصة لتوعية الأمة وإلفات نظرها لحالات أخرى من الغسيل ليست داخلة في غسيل الأموال بالمصطلح الاقتصادي المعروف لكنها تتضمن معناه وهو مناقلة المال عبر أكثر من واسطة ليؤدي غرضاً خبيثاً من خلال صبغه بوجه قانوني وشرعي.

ومن تلك العمليات ما يقوم به البعض من التحايل على المرجعية الدينية غير الحاذقة، ليستخرجوا منها فتاوى أو مواقف تحقق أهدافهم، ولا يستطيعون ذلك بالمباشرة فيدفعون مالاً لأحد الأشخاص الذي يأتي لتقديمها إلى المرجعية بعنوان الحقوق الشرعية ونحو ذلك، فيحصل على ثقة المرجعية باعتباره متديناً ملتزماً، ويقوم هذا بعرض مقترح أو طلب أمام المرجعية وهو نفسه الذي أرادته الجهة الدافعة للمال، ويستجيب المرجع لطيبته ويعطي الموقف المطلوب.

أو أن جهة تريد أن تفرّق بين المسلمين وتذكي نار الطائفية وإذا فعلت ذلك علناً يفتضح أمرها فتأتي إلى شخص ساذج بسيط وتتبرع له بمال أو تتظاهر بالتدين وتسلّم له المال ليقيم مجلس عزاء أو احتفالاً دينياً حول الموضوع الفلاني الذي فيه إثارة طائفية والتركيز عليه وتطعيمه بالروايات الخرافية وينفذ هذا الساذج وأمثاله العمل ويتحقق مراد الجهات الدافعة.

والمثال التاريخي على هذا النمط من غسيل الأموال ما فعله عبيد الله بن زياد لاكتشاف مقر إقامة مسلم بن عقيل في الكوفة، فدفع مالاً وفيراً إلى مستشاره معقل وأمره أن يتغلغل بين أصحاب مسلم ويكسب ثقتهم ثم يطلب منهم أن يدلوه على مسلم ليسلّم المال، وحركة مسلم كانت بحاجة إلى المال ونفذ الملعون هذه الخطة وتظاهر بالولاء لأهل البيت : حتى دلّه مسلم بن عوسجة على مسلم وأصطحبه معه وكان الذي كان.

ويحسُن هنا الإشارة إلى غسيل من نوع آخر للهوية أو العنوان أو الشخصية، ومن أمثلته ما تقوم به بعض الجهات لغسيل الإرهابيين السعوديين الذين قاتلوا في العراق وسوريا والذين يريدون العودة إلى بلادهم والاستفادة من العفو الملكي في بلدهم، فينقلون إلى إندونيسيا ثم يعودون من هناك إلى السعودية بعد أن يعطوهم صفة مبلغين قضوا واجب الدعوة والإرشاد خارج البلاد، وقد نقل لي بعض المسؤولين الإندونيسيين أنهم تجاوزوا المئة إلى الآن.

وإنما ذكرت هذه الأمثلة ليكون المجتمع واعياً للدسائس والمكائد التي تدبَّر له لتفتيته وتمزيق وحدته وإذكاء العداوة والبغضاء والقتال بين الناس حتى تخلو الساحة لأولئك الشياطين لتمرير مشروعهم.