القبس /148(وَلَولَارِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت.....لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا)سورة الفتح:25

| |عدد القراءات : 418
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَلَولَارِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت.....لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا)

قال تعالى:(وَلَولَا رِجَال مُّؤمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤمِنَٰت لَّم تَعلَمُوهُم أَن تَطَ‍وهُم فَتُصِيبَكُم مِّنهُم مَّعَرَّةُ بِغَيرِ عِلم لِّيُدخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَو تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح:25).

السياقات التاريخية للآية الكريمة:

الآية من سورة الفتح التي سجّلت الفتح المبين الذي منّ الله تعالى به على نبيه الكريم(صلى الله عليه واله) وعلى المسلمين بصلح الحديبية الذي انقلبت فيه موازين القوى ومعادلة الصراع بين المؤمنين والمشركين حيث كسر الله تعالى شوكة المشركين بقيادة قريش وشتت شملهم واصبحوا يُغزون في عقر دارهم وكانوا قبل عام من ذلك يحشدون عشرة الاف من الاحزاب ويحاصرون المدينة وأهلها، فصاروا يطلبون من النبي(صلى الله عليه واله) الصُّلح والرجوع عن مكة ذلك العام، مما مهد الطريق لانتشار الاسلام في جزيرة العرب وفتح مكة، وكل ذلك تحقق بدون قتال، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح:24)، ودع عنك ذكر بعض اصحاب النبي(صلى الله عليه واله) الذين لم يفهموا هذا الفتح المبين فاعترضوا على رسول الله(صلى الله عليه واله) وشككوا في مصداقيته كما ورد في كتب العامة([1]).

معنى الآية الكريمة:

وجواب (لولا) في الآية محل البحث غير مذكور ولكنه يعرف من هذه الآية السابقة عليها، أي لولا وجود هؤلاء لما كفّ الله تعالى أيديكم وأيديهم عن القتال الذي كان سينتهي حتماً بانتصار المسلمين كما في الآية السابقة عليهما (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) (الفتح:22).

فيكون معنى الآية انه لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ما زالوا يقيمون بين المشركين يخفون اسلامهم تقية واستضعافاً او لمصالح معينة لكونهم عيوناً للنبي (صلى الله عليه واله) على المشركين وانتم لا تعرفونهم، لأوقع الله تعالى القتال بينكم وبين قريش وقد اقتحمتم عليهم ديارهم والنصرُ لكم، لكن الله تعالى كفّ أيديكم وأيديهم عن القتال، حمايةً لكم ولأولئك المؤمنين، لأنكم بسبب جهلكم بهم فيخشى عليكم من إصابتهم بقتل أو جرح فتصيبكم بسبب ذلك (معرّة) أي ضرر وعار في الدنيا أو الآخرة، لأن المشركين سيعيرّون المسلمين ويقولون أن هؤلاء مجرمون قساة لم يرحموا حتى جماعتهم المؤمنين، وسيقولون أيضاً أن النبي (صلى الله عليه واله) لم يراعي حرمة بيت الله الآمن فقاتل على أرض الحرم.

ولو تزَّيل هؤلاء المؤمنون أي انفصلوا وتباينوا عن مجتمع المشركين لوقع العقاب على الكافرين خاصة (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) من دون محذور، كما ان الفريقين متزايلون يوم القيامة فيحل العذاب بالكافرين.

والغرض الاخر الذي لوحظ في تجنب القتال وكفّ الايدي عنه هو قوله تعالى (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الفتح :25) اي لإعطاء مزيد من الوقت والفرصة حتى يخرج المؤمنون من وسط قريش ويأووا الى كهف رسول الله (صلى الله عليه واله) الرحيم، او حتى يهتدي من يشاء الله من هؤلاء المشركين والمعاندين، وهؤلاء لا تعرفون عنهم شيئا اكيدا، فلو تزيل هؤلاء اي تحقق الغرض بهداية من يُريد الله تعالى هدايته وانفصالهم عن المشركين لعذبنا الذين كفروا فالكفّ عن القتال يحقق مصلحتين:

1-     دفع الخطر عن المؤمنين غير المعروفين ودفع المعّرة عن المسلمين.

2-     اعطاء الفرصة لهداية المزيد من الاعداء للإيمان.

من معاني الرحمة في الآية:

وهذه الرحمة لا تختص بالقوم الموجودين في ذلك الزمان، بل يشمل من سيأتون لاحقا كما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في عدة روايات([2])، وفي إحداها قال الراوي للإمام الصادق (عليه السلام):ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل فلاناً وفلانا؟ قال (عليه السلام) (لأيةٍ في كتاب الله عز وجل (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح:25) قال:قلت:وما يعني بتزايلهم؟ قال (عليه السلام) (ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر أبدا حتى تخـرج ودائـع الله عـز وجـل, فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز وجل فقتلهم )([3]).

سنة الله في عباده:

وهذه سنة الهية ثبّتها القرآن الكريم في قصة النبي نوح (عليه السلام)، لذلك فإنه (عليه السلام) لم يستنزل العذاب على قومه إلا بعد أن حصل عنده اليأس من ولادة شخص مؤمن، قال تعالى (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا) (نوح:26-27) ولكن العذاب لم ينزل إلا عندما أخبره الله تعالى بهذه الحقيقة وعندئذٍ أيقن النبي نوح (عليه السلام) بنزول العذاب، قال تعالى (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (هود:36-37).

دروس من الآية:

والآن بعد أن فهمنا أكثر من وجه لتفسير الآية نستطيع استنباط عدة دروس من الآية:

1-     ان الغرض الذي يجب أن يكون ماثلاً دائماً أمام كل القادة والعاملين في السلم وفي الحرب وفي كل عمل هو إدخال الناس في الرحمة الإلهية (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ) لأن الغرض من الخلق رحمتهم (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) (هود:119) فالرحمة المُشار اليها في الآية يمكن أن يكون المقصود بتحصيلها المؤمنين المستضعفين المتخفين بإيمانهم، أو المؤمنين الموجودين في أصلاب المشركين ولو بعد عدة أجيال، أو لنفس المشركين بأن يُوفقوا للإيمان، وقوله تعالى (من يشاء) ليس اعتباطياً وإنما مبني على أهلية الشخص وقابليته وحسن اختياره، لأن الله تعالى حكيم والحكيم يضع الاشياء في مواضعها.

فليست الحرب في الاسلام لتوسيع النفوذ وبسط السلطة وجني المزيد من المكاسب والمغانم وإنما لشمول الناس بالنفحات الالهية فإذا تحقق ذلك بالسلم والكفّ عن القتال فقد تحقق الغرض ولا معنى للحرب، فليفهم المعترضون على تشريع الاسلام للقتال.

2-     إن الآية تعطينا تفسيراً لصبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على الظلم الذي لحق به وبالصديقة الزهراء (عليها السلام) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) وعجز الكثيرون عن فهم موقفه (عليه السلام) لذا بادروا الى إنكار أصل الموضوع مع تسليم المصادر بوقوعه، لكن أمير المؤمنين(عليه السلام) كان يعلم بما علّمه الله تعالى من أن في أصلاب هؤلاء من يكونون موالين عاجلاً أو آجلاً ولو قتلهم فأنه سيقطع نسلهم ويحرم اولئك من الكمال.

3-     وتعرّفنا أيضاً على سرّ من أسرار طول غيبة الامام المهدي (عليه السلام) وهو استفراغ الوسّع في إخراج المؤمنين من أصلاب الكافرين والمنافقين وتوفر فرصة الهداية لكل البشر كما ان النبي نوح (عليه السلام) لبث طويلاً في قومه (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً) (العنكبوت:14) للوصول الى هذه النتيجة فلا نستغرب من طول غيبة الامام (عليه السلام) - وان ضاقت صدور المؤمنين بذلك- لإنه مُدّخر لإقامة دولة العدل الالهي، واذا كان النبي المعصوم المزوّد بالعلم اللدنّي يعجز عن معرفة هذا الوقت فيظن انهم لا يلدون الا فاجراً كفار فكيف يعرفه الجهلة، وفي هذا جواب للمشككين والمتسائلين.

4-     ان الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن غيرهم (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ.... لَعَذَّبْنَا) وفي رواية عن الامام الصادق (عليه السلام):(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا. وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل:(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)([4]).

وقد قلت في الخطاب الفاطمي في نيسان من العام الماضي ان تخاذل الكثيرين عن نصرة القانون الجعفري ومعارضة البعض الآخر حتى أجهضوه كانت سبباً في التقدير الإلهي لنزول بلاء عام لولا نصرة البعض للقانون وحماسهم للدفاع عن إقراره وتثقيف الأمة على المطالبة به، وبعد شهرين من ذلك نزلت بلاءات لم نكن نعهدها من سقوط عدة محافظات بيد داعش وتهجير الملايين وتدمير المدن وأخذ النساء سبايا ووقوع مذابح بالآلاف جملة واحدة وكادت تسقط بعض المدن المقدسة لولا أن الله تعالى رفع جزءاً من البلاء ببركة تلك النصرة، فأقرأوا جيداً السنن الإلهية وتأثيرها في الحياة لئلا تتكرر الاخطاء والخطايا الكارثية.

ولا زالت الفرصة موجودة لانهم قرّروا في حينها تشكيل لجنة علمائية للنظر في القانون وآلية اقراره وقد مرّت مدة كافية لإنجاز هذا الامر والله المستعان.

5-     إن الكف عن القتال كان رعاية لجمع من المؤمنين أن يصيبهم ضرر جهلاً بغير علم (لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ) وهذا يكشف حكمة المرجعية الرشيدة في توقفها عن الاذن بالتشكيلات الشعبية المسلحة إلا في ساحات المواجهة والدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، واشترطت أن يكون العمل العسكري منضبطا ومحدودا بإشراف قيادات مهنية وكفوءة ومخلصة ونزيهة وأن ينالَ المتطوعون تثقيفاً كاملاً حول واجباتهم الدينية والوطنية وتدريباً جيداً وتسليحاً يناسب المعارك التي يدخلونها، أما اطلاق الدعوة للناس عامة من دون وضع التدابير والخطط لتحقيق هذه الشروط وتنظيم العمل والسيطرة عليه، فأنه تقع هذه المحاذير التي ذكرتها الآية الشريفة، حيث تتناول وسائل الاعلام هذه الايام وقبلها اخباراً عن وقوع انتهاكات وجرائم بحق الابرياء من قبل المندسين والجهلة والمتعصبين والنزقين الذين لم يتعرفوا على أداب وأخلاق العمل العسكري وأهدافه وقوانينه الشرعية والمهنية، فالجهد الشعبي غير المنظم يلزم منه الوقوع في هذه الكوارث، فكيف وهم لا يعلمون  ولا يميزون المسلمين الابرياء (لم تعلموهم)(بغير علم).

6-     عدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم مهما رتعوا في الكفر والشرك فمن الممكن شمولهم بالرحمة الالهية فقد دخل المشركون بعد ذلك في الاسلام طوعاً أو طمعاً أو لأي سبب آخر، وعلى العاملين أن يستمروا في محاولاتهم فأن كل شيء ممكن عند الله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر) (الغاشية:21-22) وان الاسلام قادر على استيعاب حتى اعتى الناس واكثرهم همجية ووحشية كالمغول الذين اكتسحوا العالم الاسلامي وأوغلوا فيه قتلاً وتدميراً، وما اسرع ما دخلوا في الاسلام واصبحوا جزءاً من المجتمع المسلم وآمن كثير منهم بولاية أهل البيت (عليهم السلام).

وقد وجهّت في عدد من لقاءاتي مع المسؤولين بأن يكون من اولوياتنا في مواجهة داعش والقاعدة والتنظيمات الارهابية الأخرى هدايتهم وإقناعهم وإلقاء الحجج عليهم وإزالة الشبهات والأوهام عن اذهانهم والغشاوة عن بصائرهم لان أكثرهم مضلّلون تعرضوا لغسيل الدماغ وقد تناقلت وسائل الاعلام خلال المدة الماضية رجوع كثير منهم الى بلدانهم والتبرّي من داعش والقاعدة بعد ان اطّلعوا على التصرفات المشينة والوحشية لقياداتهم والتقطت عدة رسائل نصية وبريدية لمقاتلين اجانب في العراق وسوريا تبيّن شعورهم بانهم قد خُدِعوا واتخذهم الذين جنّدوهم كبش فداء لاغراضهم الشيطانية.

فيمكن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي للحوار معهم وسلوك الطرق الممكنة للوصول الى عقولهم وقلوبهم وفضح الاجندات المعدّة له، كما فعل امير المؤمنين (عليه السلام) مع أسلافهم من الخوارج عندما حاججهم وناظرهم قبل خوض معركة أمير المؤمنين فتاب ثلثا عددهم (ستة الاف من تسعة)([5]) وتركوا عقيدتهم وهو إنجاز عظيم، والشواهد الحاضرة كثيرة أيضاً حيث أن كثيراً من الوهابيين والسلفيين استبصروا بعد الاطلاع على حجج وبراهين أهل البيت (عليهم السلام) عندما تلقى اليهم بالحكمة والموعظة الحسنة من دون استفزاز في بعض البرامج والحوارات الرصينة التي تعرضها الفضائيات فلا نقلل من اهمية هذا التوجه ولنباشر به جميعاً، ولنعطه الجهد الذي يستحقه.

 



([1]) أنظر: جامع البيان- إبن جرير الطبري/ 26/138/ح24461,- تفسير القمي: 2/315

([2]) ذكرها في تفسير البرهان: 9/71.

([3]) عن كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق:641.

([4]) البرهان :2/145 نقلاً عن تفسير العياشي 446.1/135.

([5]) الاحتجاج- الشيخ الطبرسي: 1/276