ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة
ملحق(2):حاجتنا الى الاسوة الحسنة(1)
أن أي رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام، لابد لها لكي تنجح في بناء أمة من شكلين من المقومات سميناهما الذاتية والموضوعية، وقلنا إن الذاتية منهما لها دعامتان:
الأولى:ما يرجع إلى ذات الرسالة، أعني شريعة الإسلام التي توفرت فيها كلّ عناصر الكمال من الاستيعاب لكلّ شيء، كما قوله تعالى:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38)، ومن خطابها للجميع في قوله تعالى:(هُدىً لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)، ومن خلودها قوله (صلى الله عليه واله):(حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة)(2)، ومن صيانتها من الانحراف والتغيير، قوله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وغيرها مما لا يحتاج إلى بيان، لأنها صنعة الله تبارك وتعالى الذي له الأسماء الحسنى.
الثانية:ما يرجع إلى ذات الرسول وهو النبي محمد (صلى الله عليه واله) وهو أكمل الخلق، ربًته يد الرعاية الإلهية، لعدم وجود من هو أكمل منه حتى يُربيه ويأخذ بيده في مدارج الكمال، وعن ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه واله):(أدبني ربي فأحسن تأديبي)([3]).
ولا تكون الرسالة فاعلة ومؤثرة وتؤدي دورها في حياة الأمة إذا لم يكن حاملها مستوعباً لها قد أُشرب بها وتمثلها في حياته وجسدَها في سلوكه وواقعه، حتى عاد صورة خارجية لها وعادت صورة نظرية له، لذا لما سُئِلت إحدى أمهات المؤمنين عن سيرة رسول الله (صلى الله عليه واله) وأخلاقه قالت باختصار:(كان خلُقه القرآن)([4]).
ولعدم إمكان التفكيك بين النظرية - ولا أقصد بالنظرية ما يراد منها في المصطلح أعني المعلومة القابلة للصحة والخطأ، وإنما أعني مجموع ما احتوت عليه الرسالة من أصول وفروع وأخلاق التي أسسها القرآن الكريم - والتطبيق، أي بين الرسالة وسلوك القائمين عليها، صار الناس لا يقتنعون بأي رسالة مهما كانت ترفع من مبادئ ومثل وأخلاق عالية ونبيلة إذا كان حاملوها والقائمون عليها أول من يخالفها.
وهذا أحد أسباب انحطاط المسلمين وتشوه صورة الإسلام، فكيف يقتنع الناس بحرمة شرب الخمر إذا كان حاكم المسلمين أو ولاته يشربونها على منابر المسلمين؟ وكيف يقتنعون بحرمة الغناء أو السفور أو ممارسة الفاحشة إذا كان الخليفة يعقد الليالي الحمراء لإقامتها؟
ونحن - الحوزة العلمية وكل مؤمن رسالي - حملة رسالة إصلاحية كيف نستطيع أن نردع الناس عن الغيبة وإهانة المؤمن إذا كنا نلوكها بألسنتنا؟ وكيف نمنعهم من مشاهدة الأفلام والمسلسلات إذا كان هذا الجهاز اللعين في بيوتنا؟ وكيف نأمرهم بالصلاة في أوقاتها إذا كنا ننام عن صلاة الصبح؟ وكيف نحثهم على صلاة الليل ونحن لا نؤديها؟ أو نحثهم على إفشاء السلام ونحن لا نرد التحية بمثلها؟ فضلاً عما هو أحسن منها، وكيف نقنعهم بترك التدخين ونحن نزاوله ونصرف الأموال في سبيله بدلاً من أن ننفقها في قضاء حوائج المؤمنين وما أكثرهم اليوم.
هذا الترابط الوثيق بين الرسالة وسلوك حاملها عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام):(ما أمرتكم بطاعة إلاّ كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية إلاّ كنت أول من يجتنبها)([5])، ولذا قالوا:إنّ الواعظ إذا لم يكن متعظاً لم يؤثر في القلوب ولم يهذب في النفوس.
لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل:
ومن هنا أكدت أحاديث المعصومين (عليهم السلام) على ضرورة اقتران العلم بالعمل، وأنهّ لا قيمة للعلم إذا لم يقترن بالعمل، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28) قال:(يعني بالعلماء من صدَق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم)([6])، وعن سليم بن قيس الهلالي قال:سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدَث عن النبي (صلى الله عليه واله) أنه قال في كلام له:(العلماء رجلان:رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)([7])، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ أرتحل عنه)([8])، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):(أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حاير باير)([9])، وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل:(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ)(الشعراء:94) قال (عليه السلام):(هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره)([10]).
هذه الوشيجة بين النظرية والتطبيق أو قل بين الرسالة وسلوك حاملها نخرج منها بعدة نتائج:
1 - إن الشريعة كلما كانت أكمل فحاملها يكون أكمل، ولما كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع الإلهية فيكون رسول الله (صلى الله عليه واله) أكمل الخلق وأشرفهم.
2 - إن شريعة الإسلام خالدة ودائمة، فيكون وجود المعصوم (عليه السلام) دائمياً ومستمراً، وهو ما نعتقد به ودلت عليه الأحاديث الشريفة التي مضمونها:(لا تخلو الأرض من حجة قائم مشهور أو خفي مستور)([11])، وما جاء في حديث الثقلين:(إنيّ تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً:كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)([12]).
3 - إن الاعتداء على حامل الرسالة وممثليها من أنبياء أو أئمة إنما هو اعتداء على الشريعة نفسها، وبالعكس فإن أي اعتداء على الشريعة بتحريفها أو تمييعها أو مخالفتها إنما هو اعتداء على حامل الرسالة نفسه، لذا ورد في تفسير قوله تعالى:(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) (البقرة:61) أي بتحريف تعاليمهم ومخالفتها وتشويهها، فليعلم هؤلاء الذين يعصون الله تبارك وتعالى بترك الصلاة أو الخمس أو السفور أو التبرج أو ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم بنشر الصور الخلاعية وفتح محلات الفسق والفجور إنما يقتلون بها رسول الله (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
4 - إن الإسلام إنما يتقدم وينتشر وتحصل القناعة به بتقدم أبنائه - خصوصاً العلماء والحوزة الشريفة والمؤمنين الرساليين - وتكاملهم وحسن تجسيدهم له، فحينما يقول الحديث:(العلماء أمناء الرسل، وحصون الإسلام)([13]) إنما يشير إلى هذه المسؤولية المزدوجة (أعني المسؤولية النظرية أو قل العلمية، ببيان محاسن الإسلام وعظمة تشريعاته وتكاملها وقدرتها على قيادة البشرية نحو السعادة والصلاح، والمسؤولية العملية بتمثيل الإسلام في سلوكهم وتفاصيل حياتهم) فهاتان مسؤوليتان لا تنفكان عن بعضهما.
وقد وعدت الأحاديث الشريفة بأنّ الله تعالى يقيّض لهذا الدين في كلّ زمان من يمثله هذا التمثيل، ليكون حصناً حقيقياً للإسلام، قال (عليه السلام):(فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)([14]) فكونوا من هذا الخلف، فإنها فرصة متاحة لأي أحد يعمل بجد واجتهاد لتأهيل نفسه لهذا الموقع، والله تعالى لا يبخل بإعطاء المستحق حقه وهو القائل:(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (الأعراف:85).
لأجل هذه النقاط ركز القرآن الكريم على أهمية الأسوة الحسنة في تربية البشر وهدايتهم وإصلاحهم، قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) فقد يؤثر الأسوة الحسنة في حياة الناس أكثر مما تؤثر فيهم كتب كثيرة، وأكدته الأحاديث الشريفة كما في قوله (عليه السلام):(كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)([15]).
وبمقدار ذلك تكون خطورة القدوة السيئة([16]) والعياذ بالله، لذا ورد التهديد الكبير للعلماء إذا نكبوا عن الصواب وفارقوا الطريقة المثلى، لأن هذا يؤدي إلى إعراض الناس عن الشريعة، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كلّ محب لشيء يحوط ما أحب، وقال (صلى الله عليه واله):أوحى الله إلى داود (عليه السلام):لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم)([17])، وعن حفص بن غياث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(يا حفص، يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)([18])، وعنه إنّه قال:قال أبو عبد الله (عليه السلام):قال عيسى بن مريم (عليه السلام):(ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار)([19]) وقد اشتهرت كلمة بعضهم:(إذا فسد العالِم فسد العالَم).
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى عرض صورة الأسوة الحسنة في حياتنا، فنحن مسؤولون أكثر من أي وقت مضى عن دراسة حياة رسول الله (صلى الله عليه واله) وسيرته دراسة تحليلية، لكي نتمثلها في حياتنا وتكون نبراساً لنا، ليس فقط في حياته الشخصية الخاصة لكونه أكمل المخلوقات وأشرفها وأحقها بالإقتداء فـي حياتــه العامة، بل لكونه أعظم مصلح اجتماعي عرفته البشرية، ولكونه مؤسس خير أمة أخرجت للناس من العدم، ولكون قيادته المباركة وفرت للبشرية أسعد عصر من عصورها، هذه الأبعاد المتعددة في شخصيته (صلى الله عليه واله) جعلته أولى الناس بالتأسي والاقتداء لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وأراد السعادة لنفسه ولأمته.
وقد ذكرت في بعض المناسبات وجهاً لمعنى الكلمة العامية:(إن سفرة الحسين واسعة)، ويمكن أن يراد بها عدة معانٍ بحسب ما أراد بها قائلوها، لكنني أفهم لها معنى واقعياً غير ما ذكروه، وهو أن حياة الحسين (عليه السلام) سِفرٌ مبارك يتسع كل ما يريده الطامحون إلى الكمال التواقون إلى السعادة الفارون من الحضيض، وجدُّه (صلى الله عليه واله) أولى بهذه السعة منه (عليه السلام)، فلنأخذ من هذا السِفر المبارك ما يعيننا على مسؤولياتنا التي قلنا إنها أضخم من إي يوم مضى من أكثر من جهة:
مسؤوليتنا اليوم أضخم من الماضي:
1- إننا نواجه جاهلية عاتية تضرب بإطنابها أرجاء الأرض في أفكارها واعتقاداتها وفي سلوكياتها وأهوائها ونزعاتها([20])، بل إن جاهلية اليوم جمعت كل مساوئ جاهليات الأمس القريب والبعيد، وقد عقدت فصلاً طويلاً في كتاب (شكوى القرآن) لبيان مفهوم الجاهلية بحسب ما يستفاد من القرآن، وذكرت خمس عشرة نقطة التقاء بين الجاهليتين([21]) وخرجنا بنتيجة أن الجاهلية ليست فترة زمنية ومرحلة تأريخية انتهت بظهور الإسلام، وإنما هي نمط من أنماط الحياة تتردى إليه البشرية وتسقط فيه كلما ابتعدت عن شريعة الله تبارك وتعالى.
فما أحوجنا إلى أن نستلهم من سيرته (صلى الله عليه واله) كيفية مواجهة هذه الجاهلية بحيث استطاع أن ينقلهم (صلى الله عليه واله) في مدة ضئيلة من عمر الزمن هي ثلاثة وعشرون عاماً، من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام السامقة([22])، وقد ذكرت في نفس الكتاب عدة دروس مستفادة من هذه التجربة([23]).
2 - إننا نقترب بسرعة من يوم الظهور المبارك لبقية الله الأعظم، ومن شروطه وصول البشرية إلى قناعة كاملة بالإسلام، وقد قلنا قبل قليل:إن القناعة بالإسلام كنظام ورؤية للحياة لا تنفك عن القناعة بسلوك حامليه ومعتنقيه، فكلما كان التطبيق أكثر صدقاً كان أسرع في حصول هذه القناعة، وقد وردت التطمينات بأن الإسلام لا يحتاج إلى جهد كبير من أبنائه لتحصل قناعة الآخرين به، لأنه يغلب العقول ويفتح القلوب بلا عناء كثير، بخلاف المبادئ الأرضية التي لا تستطيع أن تُحَصّل هذه النتيجة بكل أساليب الإغراء أو البطش والتهديد، وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام):(إن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)([24])، و(كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)([25]).
والتأريخ شاهد على ذلك، فإن المغول - وهم أكثر الشعوب وحشية- ما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد أن اكتسحوا بلاده قتلاً ونهباً وتدميراً، وها هو ذا الغرب ينتابه القلق من إقبال أبنائه على الإسلام، فتقول إحصائية في بريطانيا:إن عشرين ألف امرأة بريطانية اعتنقت الإسلام إحداهن أستاذة جامعية أعلنت إسلامها في كلمة ألقتها في تجمع في حدائق هايد بارك الشهيرة في قلب لندن، وسوف ترى عن قريب كيف أن الإسلام يفتح قلوب أعدائه إلاّ من ضرب عليها إبليس بالأغلال كالصهاينة.
ألسنا ندعو الله تبارك وتعالى أن ينتصر بنا لدينه وأن يجعلنا من أنصار وليه الأعظم؟ بل نقرأ في دعاء الافتتاح أن نكون من الدعاة إلى طاعته تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله في دولته الكريمة؟ فها هي الخطوة الأولى والمهمة التي رسمها القرآن الكريم في قوله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) وشرحها أمير المؤمنين نفس رسول الله (صلى الله عليه واله) بقولة (عليه السلام):(ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد)([26]).
الحرب التي يعيشها الإسلام اليوم:
3- إننا نعيش حرباً شعواء على الإسلام بأشكال مختلفة، أحدها الحرب العسكرية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب، وقد اتحدوا جميعاً وتناسوا خلافاتهم وكل عداوات الأمس ليكونوا يداً واحدةً في هذه الحرب، وقد أعلنت الأخبار اليوم (28/5/2002) - وأنا أكتب هذه السطور - أنهم وضعوا المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة بالاشتراك في اتخاذ القرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
وهذا الشكل من الحرب واضح وملتفت إليه، لكن الأخطر منه هو الحرب الخفية بتشويه صورة الإسلام وتمييع أحكامه وإفراغه من مضامينه والاكتفاء بالشكليات، فيسوّقوا لنا أنه لا مانع من أن تتحجب المرأة ولكن على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية، ولا بأس بأن يلتزم الشاب بالصلاة والصوم مادام غربياً في أفكاره وولائه ومظهره، وأن يكون اهتمام الناس منصباً على الازدياد من المظاهر الدنيوية فلا يستقر في دار حتى يطمح إلى أحسن منها، وسرعان ما يبدل سيارته إلى أحدث موديل أو أثاثه، أو يتفاخر بكثرة أمواله، هذا غير ضياعه في المتع المتنوعة من رياضة وفن، فلا يلبث أن يمل من متعة حتى يأتوه بغيرها، ليبقى في هذه الدوامة والدائرة المفرغة، ولا يلتفت إلى أهدافه الحقيقية رغم أن القرآن صريح وواضح:(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
ومحل الشاهد إننا لو درسنا أسباب هذا الضياع لوجدنا أن أهمها غياب القدوة الحسنة التي تبهر العقول وتدخل القلوب وتقنعهم بالاتباع والتأسي وتلغي كل ما سواها، وقد دأب الإنسان على المتابعة والمشاكلة للشخصيات التي ينبهر بها حتى في الأشياء التي لا علاقة لها بسبب انبهاره، فمثلاً هو يعجب به كبطل أفلام أو رياضي إلا أنه يقلده في ملبسه وحركاته ومظهره، بل حتى أفكاره ومعتقداته أحياناً، فإذا غابت عن حياته الأسوة والقدوة الحسنة، فإنه سينجذب إلى الأسوة السيئة من رياضي أو فنان أو بطل فلم وهمي ونحوه.
علينا ألاَّ نتبوّأ موقعاً إلا بجدارة:
لذا تجد من أهم العوامل التي جذبت الناس إلى الإسلام الانبهار والذوبان في شخصية رسول الله (صلى الله عليه واله)، التي ظلت مؤثرة في نفوس أصحابه حتى بعد وفاته (صلى الله عليه واله) بل إلى اليوم، فإن الكثير ممن اعتنقوا الإسلام إنما اعتنقوه إعجاباً بسيرة رجاله، كرسول الله (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام).
وهذا - أي تأثير شخصية النبي (صلى الله عليه واله) في نفوس أصحابه - مما شهد به الأعداء وجعل الرعب يتملكهم ويملؤهم الشعور بالإحباط واليأس من المواجهة، وعندما خرج وفد من قريش لاستطلاع أخبار النبي (صلى الله عليه واله) وأصحابه فوجدهم محدقين به يتبركون بتراب أقدامه، ولا يدعون ماء وضوئه يسقط إلى الأرض بل يتقاسمون قطراته.
وقد اقتضت المشيئة الإلهية أن لا يتبوأ النبي (صلى الله عليه واله) هذا المقام الرفيع إلاّ بعد أن ملك القلوب وخطف الألباب بأخلاقه وحسن سيرته، حتى سمّوه (صلى الله عليه واله) في الجاهلية بالصادق الأمين، وما وجدوا له خطلة في قول ولا زلة في فعل، وألقى عليهم الحجة بذلك حين أعلن (صلى الله عليه واله) دعوته قائلاً:(لو قلت لكم أن وراء هذه الأكمة جيش جاءوا للإغارة عليكم أتصدقونني؟ قالوا بأجمعهم:نعم، لأنك الصادق الأمين، قال:فإني رسول الله إليكم ونذير لكم من بين يدي عذاب أليم، قولوا:لا إله إلا الله تفلحوا)([27]).
وهذا درس يمكن أن نستفيده من سيرة رسول الله (صلى الله عليه واله) غير ما ستأتي الإشارة إليه أن لا نتبوأ موقعاً اجتماعياً إلاّ حينما نكون أهلاً له، بحيث تتوفر القناعة الكاملة لدى الأمة باستحقاق هذا الموقع.
وحياته (صلى الله عليه واله) حافلة بالكثير مما يتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل:89) و(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38) وهو (صلى الله عليه واله) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم وهو (صلى الله عليه واله) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب (شكوى القرآن).
ما هي الأمور التي يمكن أن نتأسى بها؟
ولكي نختصر الوقت ونخفف عنكم المؤونة نلفت أنظاركم إلى بعض ما يمكن أن نتأسى به من حياته (صلى الله عليه واله) ويعيننا على أداء مسؤولياتنا، وسنجعله على شكل نقاط، وهي عبارة عن سلسلة محاضرات بعنوان (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع)([28]) لكني أختصرها لكم بذكر عناوينها وقد ذكرت بعضها في مناسبات متعددة، لكن تذكرها ضروري، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ومنها:
1 - المعرفة بالله تعالى والإخلاص له، فما من كلمة يقولها أو فعل يفعله أو ترك يتركه إلا لله تبارك وتعالى، ولو خيَر بين أمرين اختار أرضاهما لله، وكان على ذكر دائم لله دلَّ عليه ما روي من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم دعاء، وللتخلي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، فكانت حياته (صلى الله عليه واله) كلها عبادة وفناء تام في الله سبحانه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من النوم والأكل ونحوهما مما يراه (صلى الله عليه واله) غفلة عن الله تبارك وتعالى وتقصيراً في وظائف العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك وتعالى:(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (الفتح:1-2) وإن كان الاعتقاد أنهم (عليهم السلام) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم([29])(عليهم السلام).
وقد ربًى أصحابه المخلصين على هذه العبودية الكاملة، فيوصي أبا ذر (رضي الله عنه):(يا أبا ذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([30])، ويقول له ما معناه:يا أبا ذر إنك تستطيع أن تجعل كل حياتك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أكثر الأمور ارتباطاً بشهوات النفس كإتيانك امرأتك، فقال أبو ذر (رضي الله عنه):وكيف يا رسول الله (صلى الله عليه واله)؟ -فبينها (صلى الله عليه واله) له-:أليس في هذا العمل إدخال السرور على أهلك وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام وزيادة عدد النسمات الموحدة لله، وكل تلك النيات وغيرها طاعات وقربات إلى الله تعالى)([31]).
ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها([32])، وقد قال (صلى الله عليه واله):(قرة عيني الصلاة)([33]) لأنها معراجه (صلى الله عليه واله) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه فيقف على واحدة ويرفع الأخرى لتستريح قليلاً فأشفق الله عليه بقوله:(طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:1-2).
2 - الإعراض عن الدنيا وعدم الاغترار بها، وطبعاً نقصد بالدنيا المحللة منها لا المحرمة، لأن اجتناب المحرمات من أول شروط العصمة المتحققة فيه (صلى الله عليه واله) والاهتمام بالأعمال الصالحة، يوصي قيس بن عاصم المنقري:(يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكلّ شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإن لكلّ أجل كتاباً، وإنه يا قيس لا بدَّ لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، ولا تبعث إلاّ معه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ عنه، وهو عملك)([34]).
نزل جبرائيل الأمين (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه واله) يوماً وقال له:(إنّ العلي الأعلى يُقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام وهو يقول لك أن لو شئت صيرت لك تهامة ذهباً وفضةً وأنت على ما أنت عليه من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله):حبيبي جبرائيل ثم ماذا؟ قال:الموت، قال (صلى الله عليه واله):إذن دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، أما اليوم الذي أجوع فيه فأسأل ربي وأصبر، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأشكر ربي)([35])، فما الذي يضرنا لو قللنا إقبالنا على الدنيا واكتفينا منها بالضروري لنكون من المخفين الذين يقال لهم جوزوا، لا المثقلين الذين يقال لهم حطوا.
3 - قوة الإرادة والثبات على الحق، فلا يحيد عنه مهما كانت المغريات أو الضغوط، وهو (صلى الله عليه واله) القائل لعمه أبي طالب (عليه السلام) لما جاءته قريش وعرضت عليه عروضاً مقابل تخليه عن الدعوة إلى الله، إن شاء ملكاً ملّكناه أو مالاً جمعنا له أو امرأة زوجناه أجمل نسائنا، قال (صلى الله عليه واله):(يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه)([36]).
ويقول (صلى الله عليه واله) عن إيمان المؤمن بأنه (أقوى من الجبل. قيل:وكيف يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه واله):لأن الجبل يُستقل منه بالمعاول ولا يُستقل من إيمان المؤمن شيء)([37])، لم يثنه الأذى الجسدي ولا المعنوي عن مواصلة رسالته، فقد وصفوه بأسوء الصفات:ساحر، كذاب، مجنون، واتهموه بأشنع التهم حتى لم يسلم من الطعن في شرفه كما في حديث الإفك الذي تقصه سورة النور.
4 - الاهتمام بأمور المسلمين وهو (صلى الله عليه واله) القائل:(من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع منادياً ينادي بالمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)([38])، أين نحن من هذا الشعور بالمسؤولية وتذويب الأنانية لمصلحة الأمة، وهل يسوغ لنا أن نهتم بأنفسنا ونعتني بمصالحنا الخاصة ونترك حبل المجتمع على غاربه ولا تتحرك مشاعرنا لما يُعانيه فنعمل على مساعدته بما نستطيع، حتى إنه (صلى الله عليه واله) كان يسعى بمشاريع الزواج والتوسط والشفاعة لانجاز هذا الامر، فيبعث جويبر إلى الدلفاء أشرف نساء قومها بني بياضه من الأنصار لتزوجه بوساطته (صلى الله عليه واله).
5 - الاهتمام بالقرآن الكريم شغفاً به، لأنه رسالة الحبيب وهل تُمَل رسالة الحبيب؟ وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى:(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).
وكان (صلى الله عليه واله) يطلب من ابن مسعود أن يتلو القرآن عليه، فيقول ابن مسعود:اقرأه عليك وقد نزل عليك، فيقول (صلى الله عليه واله):(أحب أن أسمعه منك)، يريد أن يمتع جميع جوارحه بكلام الله تعالى، فيقرأ ابن مسعود وعين رسول الله (صلى الله عليه واله) تفيض من الدمع([39]).
وكان (صلى الله عليه واله) لا ينام حتى يقرأ سور المسبّحات، أي التي تبدأ بكلمات التسبيح، ويوصي (صلى الله عليه واله) بتلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل به، ويبين الثواب العظيم لذلك، وقد بينا بعضاً منه في كتاب (شكوى القرآن).
وإنك لتشعر أنّ أي مصلح اجتماعي أو قائد عظيم لا يكون ناجحاً إلا إذا عاش في ظل القرآن وتربى في أحضانه وتفاعل مع آياته.
6 - التواضع([40])بحيث كان الأعرابي يدخل إلى المسجد فيقول:أيكم محمد؟([41]) لأنه (صلى الله عليه واله) لم يتميز عن أصحابه بمجلس أو ملبس أو أي شيء آخر، يواسي في حياته أدناهم، وهو يفعل ذلك أدباً مع الله تعالى واستشعارا للحقارة في حضرة الربوبية.
7 - عدم الاستماع إلى النميمة ونقل الكلام السيئ عن أصحابه خصوصاً من المتزلفين وضعيفي النفوس، فكان إذا أراد أحد أصحابه أن ينقل كلاماً سيئاً عن أحد منعه، وقال له (صلى الله عليه واله):(أحب أن أمضي عنكم وأنا سليم الصدر)([42]).
8 - عدم اتخاذ بطانة وحاشية غير مخلصة لله تعالى، أو تفكر في الانتفاع من مواقعها وجني مكاسب شخصية ولو على حساب الدين والأمة كما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (آل عمران:118).
9 - الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وقد امتدحه الله تبارك وتعالى عليها قائلاً:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) وفي وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام):(عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنًّ إلا نفسك)([43])، وقد جعلها (صلى الله عليه واله) محور رسالته قائلاً:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([44])، وهذه النقطة وحدها تستوعب مجلدات من الكلام والمصادر حافلة بالشواهد التفصيلية([45]).
10 - التركيز على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير الشديد من التقاعس عن أدائها، فقد قال (صلى الله عليه واله):(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له:يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)([46]) وهذه المراحل الثلاث كلها وصلتها الأمة كما هو واضح، وعنه (صلى الله عليه واله):(إنّ الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل:وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له، قال:الذي لا ينهى عن المنكر)([47])، وكان (صلى الله عليه واله) يقول:(إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)([48])، فاحذروا أيها الأخوة من التواكل والتخاذل والتقاعس عن أداء هذه الوظيفة الإلهية العظيمة.
11 - الاهتمام بنشر العلم والمعرفة في جميع الحقول، وكان يوصي أمته قائلاً:(اطلبوا العلم ولو في الصين)([49]) باعتبارها أبعد نقطة مقصودة يومئذ، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول:(طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنهّ معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والتزين عند الأخِلاّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، تُقتبس آثارهم ويهتدي بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم...)([50]) إلى آخر الحديث، وفي معركة بدر جعل مما يفدي الأسير نفسه أن يعلم عشرة من المسلمين. فأين أدعياء الحضارة اليوم من هذا التفكير الواعي في ذلك الزمان البعيد؟
12 - احتضان الشباب ورعايتهم فقد أوصى (صلى الله عليه واله):(أوصيكم بالشباب خيراً فأنهم أرق أفئدة)([51])، لأنّ قلوبهم ما زالت نقية وقريبة العهد بالفطرة، ولم تتكدر بالذنوب فتحرم من نور المعرفة، فلا عجب أن يكون أسبق الناس إلى اتباعه هم الشباب، وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يسأل أحد أصحابه:كيف حال دعوتكم في الكوفة؟ فأخبره بأنها تواجه صعوبات كثيرة وقلّة استجابة، فقال (عليه السلام) ما معناه:(عليكم بالأحداث، فإن قلب الحدث كالأرض الطيبة)([52])، وقد بسطت الكلام نسبياً عن ذلك في محاضرات (الحوزة ومشاكل الشباب).
13 - محاربة العادات الاجتماعية السيّئة والقضاء عليها، فمثلاً كانت قريش لا تزوج نساءها لغيرها، فزوج ضباعة بنت عمه الزبير بن عبد المطلب وهي من أشرف بيوتات قريش إلى المقداد بن الأسود، وزوج زينب ابنة عمته من متبناه زيد بن حارثة، ثم تزوجها بعده، وقد كان العرب لا يتزوجون زوجات متبنيهم، ويوصي بالبنات ويقول:إنهن حسنات، ويبين عظمة ابنته الزهراء وشرفها في قوم كانوا يئدون البنات ويعتبرونهن عاراً، بل إن الله سمّى ابنته الكوثر وجعل نسله منها، والأبتر هو من عيّره بعدم الولد([53]).
14 - الحث على الحضور في المساجد وصلاة الجماعة والشعائر الدينية، فعن الصادق (عليه السلام) قال:(اشترط رسول الله (صلى الله عليه واله) على جيران المسجد شهود الصلاة)([54])، وقال (صلى الله عليه واله):(لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم أأمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي (عليه السلام) فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب، لأنهم لا يأتون الصلاة)([55]).
ويحذر الأمة من أن يشكوهم المسجد والقرآن والعترة يوم القيامة، فعن جابر قال:سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول:(يجيء يوم القيامة ثلاث يشكون لله عز وجل:المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف:يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد:يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة:يا رب قتلونا وطردونا وشردونا، فاجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي:أنا أولى بذلك)([56]).
وقد حررنا شكويين([57]) منها بعنوان (شكوى المسجد) و(شكوى القرآن)، ويصل الاهتمام إلى درجة أنّ رجلاً أعمى يأتيه (صلى الله عليه واله) فيقول له:أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي (صلى الله عليه واله):(شُد من منزلك إلى المسجد حبلاً واحضر الجماعة)([58]).
15 - التشديد على الوحدة بين المسلمين وعدم إعطاء أية فرصة لإيقاع الفرقة بينهم، قال تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران:103) وفسر النبي (صلى الله عليه واله) حبل الله الذي بالاعتصام به تحفظ وحدة المسلمين فقال (صلى الله عليه واله):(وإني تارك - مخلّف - فيكم الثقلين:الثقل الأكبر القران والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم)([59]).
وذات يوم عمل بعض اليهود على الوقيعة بين الأوس والخزرج، وذكرهم بعداواتهم في الجاهلية ومن قتل من أشرافهم، حتى ثارت عصبيتهم فتواعدوا القتال كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه واله) ذلك، فخرج مسرعاً يجر رداءه حتى وافى القوم قبل أن يقع السيف بينهم، فوعظهم وذكرهم، فتابوا وعادوا إلى رشدهم([60]). فاحفظوا وحدتكم أيها الأحبة ولا تعطوا فرصة للأعداء ليوقعوا بينكم فلا يوجد شيء يستحق الاختلاف بيننا.
16 - الإكثار من ذكر الموت([61])، وكان (صلى الله عليه واله) يسميه هادم اللذات، ويقول (صلى الله عليه واله):(إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل:وما جلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه واله)؟ قال:ذكر الموت وتلاوة القرآن)([62])، وكان يقول (صلى الله عليه واله):(إنّي ما أطبقت عينيَّ إلاّ وظننت إنّي لا أفتحهما، ولا فتحتهما إلاّ وظننت إني لا أطبقهما)([63])، ولذكر الموت فوائد عديدة:العظة والاعتبار وتحقير الدنيا وعدم الإكتراث بها، ترقيق القلوب، استباق الخيرات، والإكثار من الأعمال الصالحة، وغيرها.
17 - الاهتمام بالمرأة من حيث تثقيفها وتعليمها وإعطاؤها حقوقها وهو بذلك يرد على الأفكار والمعتقدات الجاهلية التي تمتهنها وتجعلها سلعة بيد الرجل يقضي بها حاجته ثم يرميها في سلة المهملات، فبيّن تعالى أن المرأة كالرجل في المسؤولية وتحمل التكليف في قوله تعالى:(أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران:195).
وربّى (صلى الله عليه واله) ابنته الزهراء (عليها السلام) لتكون سيدة نساء العالمين، وكان يبيّن لها تفاصيل رسالته العظيمة كما كانت هي تلتقط أخبار أبيها (صلى الله عليه واله) أولاً بأول من خلال ولديها الحسنين (عليهما السلام)، وكان (صلى الله عليه واله) يستقبل النساء ويجيبهن عن أسئلتهن وقد صدرت منه كلمات ثناء وإطراء على عدد منهن كأم سلمة وأم أيمن وأسماء بنت عميس وهند أخت عبد الله والد جابر الأنصاري وغيرهن، وبذلك أعطاهن دورهن الكامل في الحياة بشكل لم تعطيه لهن أي شريعة أو نظام، حتى المتشدقين بحقوق المرأة اليوم وهم يريدونها بذلك أن تكون وسيلة لإشباع شهواتهم وغرائزهم ويمتهنون بذلك كرامتها.
اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد (صلى الله عليه واله) وأمتنا مماتهم، رب أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صلى الله عليه واله) وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمد وآل محمد (صلى الله عليه واله) برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
([1]) محاضرة القيت على حشد من فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها في مسجد الرأس الشريف يوم 16/ربيع الأول/ 1423 المصادف 28/5/2002 في ذكرى المولد النبوي الشريف، ونشرت في موسوعة خطاب المرحلة:1/290 ثم تلتها محاضرة أخرى في تلك الفترة واعيد تسجيلها كمحاضرات لقناة الانوار الفضائية سنة 1426/ 2005 وقد طبعت في كتاب (الاسوة الحسنة)
([20]) من فاسقات نصبن فخاخ الفتنة والإغراء، إلى بورصات اقتصادية يسيل لها اللعاب، إلى فنانين لا عمل لهم إلا تدمير الأخلاق والقيم الاجتماعية، إلى قوانين وضعية تبيح اللواط وتجيز الزواج بين الذكور، إلى الزنا الذي يفوح برائحته الكريهة وأمراضه الفتاكة كالإيدز.
([21]) تجدها في بحث (شكوى القرآن)، الملحق بقبس الاية ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30) في المجلد الثالث من هذا التفسير
([22]) فحاشا لله تعالى أن يترك جاهلية اليوم سدى ولا يبعث لها مصلحاً معصوماً هو الحجة ابن الحسن المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء.
([32]) واعلم أن باب الله تعالى مفتوح للجميع حيث لا بخل في ساحته تعالى ولكن الأمر يحتاج شيئاً من الالتفات والهمة والمواظبة على العبادة وخصوصاً قراءة القرآن وأدعية المعصومين (ع) فإنها تؤثر تأثيراً نورانياً في النفس وإن لم تقرأ بخشوع.
([40]) روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب غرر الحكم هذه الروايات:
1 - لو رخص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلق لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع.
2 - ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق حسن الرفق و لتواضع.
3 - أشرف الخلائق التواضع الحلم ولين الجانب.
([45]) جاء في كتاب أخلاق أهل البيت (ع) تعريف حسن الخلق: هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول، وكما عرّفه الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن حده فقال: (تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن). وقال (عليه السلام): (إن شئت أن تُكرَم فَلِن وإن شئت أن تُهان فأخشن) تحف العقول. وقال (عليه السلام): (إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم). من لا يحضره الفقيه.
([53]) للوقوف على مصادر هذه الاحداث أنظر: الكافي- الشيخ الكليني: 5/344/ح1و2,- المستدرك على الصحيحين- الحاكم: 4/24,- تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: 12/٤٢٠,- ميزان الحكمة الريشهري: 4/3672,- تفسير القرطبي: 20/222
([61])إتماماً للفائدة نورد هذه الرواية من كتاب مصباح الشريعة ص171: قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): (ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ وَيُرِقُّ الطَّبْعَ وَيَكْسِرُ أَعْلامَ الْهَوَى وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا وهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه واله) فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ مَا يَحُلُّ أَطْنَابَ خِيَامِ الدُّنْيَا وَيَشُدُّهَا فِي الآخرة وَلا تَسْكُنْ بِزَوَالِ الرَّحْمَة عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ لا يَعْتَبِرْ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ فِي الْقَبْرِ وَتَحَيُّرِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَلا خَيْرَ فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه واله) اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْمَوْتُ فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي سَعَةٍ إِلا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلا فِي شِدَّةٍ إِلا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَالْمَوْتُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا فَطُوبَى لِمَنْ أُكْرِمَ عِنْدَ النُّزُولِ بِأَوَّلِهَا وَطُوبَى لِمَنْ أُحْسِنَ مُشَايَعَتُهُ فِي آخِرِهَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ الأشْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ يَعُدُّهُ أَبْعَدَ فَمَا أَجْرَأَ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَضْعَفَهُ مِنْ خَلْقٍ وَفِي الْمَوْتِ نَجَاةُ الْمُخْلِصِينَ وَهَلاكُ الْمُجْرِمِينَ وَلِذَلِكَ اشْتَاقَ مَنِ اشْتَاقَ الْمَوْتَ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه واله) مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ.