القبس /107(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور:31

| |عدد القراءات : 422
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

دعوة موجّهة إلى جميع المؤمنين ليتوبوا إلى الله تعالى، وهي موجّهة إلى غيرهم من باب أولى، فالجميع مطالبون بالتوبة أي الرجوع إلى الله سبحانه لأن التوبة تعني الرجوع عن الذنب والعودة إلى الصراط الذي أمر الله تعالى به.

والاستجابة المطلوبة لهذه الدعوة لها مستويات متعددة بحسب مستويات الأشخاص أنفسهم وشكل الذنوب التي تصدر منهم فيتوب الله تعالى على العبد فيرجع على عبده بالتوفيق والجذب والدعوة للطريق الصحيح فان استجاب العبد وتاب بمستوى معين، تاب الله عليه ورجع عليه برحمة أخص ونقله الى مستوى أعلى وهكذا تكون العلاقة التكاملية درجة بدرجة وخطوة بخطوة حتى يتحقق الفلاح قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118).

وتذكر آية أخرى هذه العلاقة العاطفية بين الله تعالى وعباده وتبيّن ان هذا الحرص من الله تعالى على عودة العباد اليه ناشئ من المودّة والرحمة قال تعالى (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90).

وقد تكررت هذه الدعوة للمؤمنين في اكثر من آية من القرآن الكريم كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8).

 وقد حثّ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) اتباعه على الاستجابة للدعوة مبادراً اليها بنفسه الشريفة تطبيقها على نفسه الشريفة، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)([1]) وروي في كل يوم مئة مرة([2]) وفي الدر المنثور عن البخاري ومسلم والبيهقي عن ابي رافع قال (سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول:أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)([3]) .

والتوبة ليست فقط من ذنوب حاصلة في أي مستوى كانت بل تحسن التوبة مما يمكن أن يحصل لولا لطف الله وعنايته وصرفه عن العبد (كَذَلِكَ لِنَصْـرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) (يوسف:24).

وهذا المعنى ليس غريباً فإن تقديم سبب التوبة والاستغفار على الذنب نفسه وارد في الروايات كجزاء لبعض الاعمال الصالحة([4]) فكما ان الاعمال الصالحة تكفّر الذنوب اللاحقة كذلك التوبة والاستغفار من الذنوب اللاحقة والمحتملة .

وترقى درجات التوبة لتصل الى مستوى التوبة للحفاظ على درجة العصمة وتكاملها والبقاء في القمة وهو أحد وجوه استغفار المعصومين (عليهم السلام) التي ذكرناها في خطاب سابق.

وتتحقق التوبة الصادقة عندما تكون صادرة عن الشعور بقبح الفعل لما فيه من الجرأة على الله تعالى الخالق المنعم ومقترنة بالعزم على عدم العود إلى مثلها وتدارك ما فات مما يمكن تداركه كقضاء الصلاة والصيام الفائتين وإرجاع حقوق الناس التي غصبها وهكذا، وقد وصفت التوبة الصادقة في الآية المتقدمة بالنصوح للدلالة على المبالغة في النصح لنفسه أي صدق التائب مع نفسه وهذه التوبة النصوح كفيلة بمحو السيئات والنجاة من العذاب ودخول الجنة برحمة الله تعالى.

والله تعالى يعلم أن العبد مهما صدق في توبته فأنه معرّض للوقوع مرة أخرى في الذنب بأحد مستوياته لذا دعاه إلى التوبة النصوح مرة أخرى.

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن ابي بصير قال:قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)؟ قال:هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً) فقلت:وأيُّنا لم يعد، فقال:يا ابا محمد إن الله يحب من عباده المفَّتن التواب)([5]).

ومثلها رواية محمد بن الفضيل في نفس الباب.

ومقام التوبة من المقامات المحمودة عند الله تعالى قال عزّ من قائل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222) وأضاف الله تعالى وصف التوابين إلى ذوي الدرجات الرفيعة عنده تبارك وتعالى (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّـِرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112) وللمعصومين(عليهم السلام) وهم سادة الخلق ادعية طويلة في طلب التوبة.

فالمؤمنون جميعاً مدعوون للتوبة كغيرهم لأن عندهم ذنوباً أيضاً وإن كانت لا تشابه ذنوب الكفار والفسقة وفي هذا تحذير للمؤمنين وموعظة حتى لا يغتّر مؤمن بعمله أو يعجب به أو يجعل لنفسه منزلة أفضل من الآخرين وقد تتطلب إعادة العبد الى ربه شيئاً من الابتلاء والأذى رحمة بالعبد وشفقة عليه ليضطرّ إلى اليقظة والعودة إلى الله تعالى، قال سبحانه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21) وقد ورد في ادعية ليالي شهر رمضان (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ)([6]) أي لا تجعلني بحال احتاج الى عقوبة وابتلاء لكي اعود الى الطريق الصحيح بل اعود بلطفك وعنايتك.

وتوجد مضافاً إلى ذلك ذنوب لا يلتفت إليها عادةً أشرنا إليها في خطاب مفصَّل منشور تضمّن شاهداً على ذلك([7]) من وحي دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) اللهم اني اعتذر اليك من مظلوم ظلم، بحضرتي فلم انصره، ومن معروف اسدي اليَّ فلم اشكره، ومن مسيء اعتذر اليَّ فلم أعذره)([8]).

هذا اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الشخصية، اما اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الاجتماعية فسنجد ذنوباً جديدة نتحملها بسبب عدم بذلنا الوسع في إصلاح المجتمع وتخليصه من المعاصي المنتشرة فيه جهلاً أو تهاوناً أو تمرداً أو لأي سبب آخر وهذا كله تقصير في اداء أعظم وظيفة في الاسلام وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([9]).

ولعل هذا أحد وجوه ورود هذه الدعوة في نهاية الآيات الآمرة بالحجاب والناهية عن التبرج من سورة النور مع أنه ليس جميع نساء المؤمنين متبرجات لكنهم جميعاً مسؤولون عن وجود هذه المعصية في المجتمع إن لم يكونوا مبتلين فعلاً بدرجة من درجات هذه المعاصي الاجتماعية فانتشار الخلاعة والمجون يصيبهم بالنظرة المحرمة والإثارة غير المشروعة ونحو ذلك والعياذ بالله.

ونحن بين يدي شهر رمضان الذي هو من أعظم أسباب التوبة والاستغفار فإنه شهر المغفرة والعتق من النار ومما ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان قال (صلى الله عليه واله وسلم):(أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم، وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم)([10]).



([1]) جامع أحاديث الشيعة: 15/497 عن لب اللباب للراوندي: 1/397 ودرر اللئالي لابن ابي جمهور

([2]) شرحنا في خطاب سابق معنى استغفار رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والمعصومين (عليه السلام) (راجع موسوعة خطاب المرحلة: ج7/ص233)

([3]) الدر المنثور:5/44

([4]) ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال من زار قبر الحسين (عليه السلام) ليلة في ثلاث ليالي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ليلة الفطر وليلة الاضحى وليلة النصف من شعبان) (وسائل الشيعة: 14/475، ابواب المزار، باب54 ح1.

([5]) الكافي: 2/314، ح 4

([6]) مفاتيح الجنان: 240

([7]) خطاب المرحلة: ج 7 / ص102

([8]) الصحيفة السجادية (ابطحي): 187

([9]) راجع كتابنا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في فقه الخلاف الجزء الثامن.

([10]) مفاتيح الجنان /ص172.