القبس /99(فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ) سورة الأنبياء:94 - النبي (ص) مكفور النعمة
موضوع القبس:النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مكفور النعمة
قال الله تبارك وتعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (الأنبياء:94) وتفسير الآية باختصار ان كل عمل يقوم به الانسان فيه رضا لله تعالى ونفع للخلق فإن الله تعالى يكتب ذلك العمل ويثبته لصاحبه بما لا نُحيط من أشكال الكتابة وأنواع الشهود لشكره عليه لأن الكفران هنا بمعنى الجحود والانكار وعدم الشكر، وأصل الكفر في اللغة سُتر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك شكرها، فكفران السعي تغطيته وإهماله وعدم المجازاة عليه، ويقابله شكر العمل لذا عبّر تعالى عن نفس هذه الحقيقة في آية اخرى بقوله تعالى (وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً) (الإنسان:22)، وقد ورد الشكر – كفعل وسلوك – مقابل الكفر في آيات عديدة كقوله تعالى (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7) وقال تعالى (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40).
ومعنى شكر العمل إثابة صاحبه عليه بالجزاء المناسب (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) لكن هذه الآية وغيرها كالآية 112 من سورة طه الآتية تفيد أن قبول الاعمال مشروط بالإيمان بالله تعالى وسائر العقائد الحقة.
وقد أطلقت الآية (مِنَ الصَّالِحَاتِ) لكي لا يقللّ الانسان من شأن أي طاعة فكل عمل صالح مهما ظن الانسان أنه لا قيمة له فأن الله تعالى سوف لا يكفره أي لا يهمله قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120) فليس من الضروري القيام بأعمال كبيرة حتى يكون مرضياً عند الله تعالى.
وما دام العمل مسجلاً عند الله تعالى ويُشكر عليه فلا يهمه (أولاً) إن كان له تأثير في المجتمع أو لا يكون لأن هذا شيء بيد الله وقد يأتي تأثيره بعد زمن أو ينضّم الى عمل غيره فيصنع التأثير، ولا يهمه (ثانياً) إن أطلع عليه أحد وعرف انه الفاعل أو لم يطلع لأن المهم انه بعين الله تعالى ومكتوب عنده تبارك وتعالى.
فاستحضار هذه المعاني يدفع الانسان الى العمل ويرفع الهمّة ويزيد من النشاط ويطرد الكسل والشعور بالإحباط.
فهذا تفسير مختصر للآية ككل أما غرضي هنا فهو الوقوف عند هذه الفقرة (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) إذ المفروض ان إثابة المحسن على إحسانه وعدم اهمال العمل الصالح بلا مكافأة قضية فطرية ومن الضروريات (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60) فلا تحتاج القضية الى بيان فلمــاذا يذكــره الله تعالى؟
والذي يزيد السؤال إلحاحاً ذكر هذه الحقيقة مراراً في القرآن الكريم بنفس التعبير – أي عدم الكفران – كقوله تعالى (وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ) (آل عمران:115) أو بتعبير أخر كقوله تعالى (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً) (طه:112) أو التعبير بما يقابله وهو الشكر كقوله تعالى (وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً) (الإنسان:22) وقوله تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء:19) (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62).
يمكن القول أن الغرض هو لبيان وتقرير بعض تفاصيل عقيدة الايمان بالمعاد واليوم الآخر والحساب ومجازاة الاحسان والإساءة وهذا ظاهر من كثير من الآيات، والذي أُريد أن أضيفه أن الغرض هو لتطمين المحسنين وعاملي الصالحات مما يرونه من الحالة المؤسفة الغالبة لدى البشر وهي التنكر للمنعم وكفران النعمة على عكس ما هو المطلوب منهم الى حد احتاج عدم كفران الاحسان والعمل الصالح الى بيان وتبديد مخاوف حيث أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفاً.
وأول مكفور النعمة هو الله تبارك وتعالى قال سبحانه (وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17) وقال تعالى (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (الإسراء:89) وقال تعالى (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13) حتى اصبح كفران النعمة صفة ملازمة لسلوك البشر إلا من عصم الله قال تعالى (فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ) (الشورى:48) والكفور هو المبالغ في كفران النعمة، وقد أكدّ الله تعالى هذه الحقيقة في آية أخرى باستعمال (إِنَّ) وإدخال اللام قال تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ) (الزخرف:15) مما أوجب حالة التأسف والاستغراب قال تعالى (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس:17) على خلاف الادب النبوي المبارك، روى السيد ابن طاووس في الاقبال كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يقول - إذا أكل بعض اللقمة قبل تمامها - (اللهمَّ لك الحمد أطعمت وأسقيت وروَّيت، فلك الحمد غير مكفور ولا مودّع ولا مستغنىً عنك)([1]).
ولرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أسوة بربه في كونه مكفور النعمة ومجحودها وهو أعظم النعم الإلهية على المخلوقات وقد قرن الله تعالى إنعامه بإنعام نبّيه تعظيماً له وتكريماً قال تعالى (إِلاَّ أَنْ أغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ) (التوبة:74) وقال تعالى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) (الأحزاب:37) ولأهل البيت (عليهم السلام) أسوة برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وكذلك اتباعهم من المؤمنين، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:(كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مكفرا لا يشكر معروفه، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي، ومن كان أعظم معروفا من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) على هذا الخلق وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وكذلك خيار المؤمنين لا يشكر معروفهم)([2]) وهي حقيقة مرة تكشف عن بعض صور الانحطاط في الاخلاق والسلوك البشري.
ومظاهر كفر البشر نعمة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عديدة:-
(فمنهم) من لم يؤمن برسالته أصلاً وهم أكثرُ الناس قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103).
(ومنهم) من آمن ظاهراً بالرسالة إلا انه بعيد كل البعد عن مضمونها كالفاسقين والمنافقين ووصلت الجرأة بهم الى أن يقولوا له في وجهه الكريم وهو في اللحظات الأخيرة من حياته (ان الرجل ليهجر).
(ومنهم) من تنكر له في عترته ونصب لهم العداء حسداً وظلماً فأرتكبوا أعظم الكبائر حتى قتلوا أهل بيته وذريته وهم يشهدون ظاهراً لله تعالى بالتوحيد والى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بالرسالة.
(ومنهم) ظاهره التدين والالتزام بالعبادات الفردية إلا انه يُقصي شريعة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) عن الحياة ويمنع من تطبيقها ويدعو الى تحكيم القوانين الوضعية بعنوان (الحكومة المدنية) وهل توجد مدنية وحضارة حقيقية بغير الإسلام والقرآن والسيرة النبوية المباركة.
(ومنهم) من يريد التخلي عن سنته الشريفة التي هي بيان كتاب الله تعالى تحت عنوان الحداثة والتجديد وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يناسب الثقافة المعاصرة وتمادى بعضهم فأسقط قدسية كلام المعصوم (عليه السلام) ونحو ذلك.
وبالأمس القريب حينما نجح بعض الإخوة في إقرار قانون بمنع تجارة الخمور وبيعها لم نجد مدافعاً عنه من الإسلاميين ومرجعياتهم إلا النادر فيبخلون على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حتى بهذه النصرة الضئيلة، أليس هذا من كفر النعمة؟!
وهكذا تجد صدق ما وصف به أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) من أنه مكفر لا يُشكر معروفه حتى من المنتسبين اليه، فعلينا ان ننتبه لأنفسنا ونكون من الشاكرين لنعمة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (صلى الله عليهم اجمعين) بشكرهم والثناء عليهم والصلاة عليهم ونشر ذكرهم المبارك والدعوة اليهم وإتباع أقوالهم وأفعالهم.
ان خطورة هذا السلوك – كفران النعمة – لا يقتصر على العقوبة الوخيمة لصاحبه وقد أشرنا الى جانب من هذا الحديث في تفسير قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)([3]) (إبراهيم:28-29) حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عليه السلام) قال:(أربعة أسرع شيء عقوبة رجل أحسنت اليه ويكافيك بالإحسان اليه إساءة)([4]).
بل يكون له أثر اجتماعي وهو ما يعبر عنه بقطع سبيل المعروف، روي عن الامام الصادق قال:(لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل:وما قاطعو سبيل المعروف؟ قال:الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمتنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره)([5]).
وإن كان المفروض بالإنسان أن لا يمنعه عدم شكر إحسانه على تقديم المزيد من عمل الخير طلباً لرضا الله تعالى وقد طمأنته الأحاديث الشريفة على حسن جزائه عند الله تعالى، عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(أفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة المحسن يكفّر احسانه)([6]) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(يد الله فوق رؤوس المكفّرين ترفرف بالرحمة)([7]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْء مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ،(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) ([8]).
وقد فسّرت بعض الأحاديث معنى ان المؤمن مكفَّر النعمة، فقد روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن الامام الصادق (عليه السلام) قال:(الْمُؤْمِنُ مُكَفَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرُوفَهُ يَصْعَدُ إِلَى الله عز وجل فَلا يُنْشَرُ فِي النَّاسِ، وَالْكَافِرُ مَشْهور وذلك ان معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد الى السماء)([9]) .
أقول: مُكَفَّر على وزن مُعظَّم وهو مجحود النعمة مع إحسانه، وذلك إما لأنه يصنعه لدى الفقراء والضعفاء المحتاجين وهؤلاء ليس لهم جاه اجتماعي وكلام مسموع حتى ينتشر ذكره بينما الكافر والمنافق يجعل معروفه في المشاهير والمتصدرين ووسائل الاعلام (والملأ) بحسب التعبير القرآني فيروجون لمن أحسن إليهم.
(أو) لأن المؤمن يصنع معروفه خفية من دون رياء أو شهرة فلا يُعـرف، والكافر يصنعه علانية لان غاية ما يطلب هو الرياء والسمعة بين الناس فتتحقق له.
(أو) ان الله تعالى يريد حماية المؤمن من الرياء وحبط العمل فلا ينشره وتكفر نعمته ليزيد من ثوابه في الآخرة بينما المنافق والكافر لا خلاق لهما في الآخرة فيأخذون جزاءهم في الدنيا.
وذكر ابن الأثير معنى آخر لقوله (عليه السلام) (المؤمن مكفَّر) قال:(أي مرزأ في نفسه وماله لتكفر خطاياه)([10]) وهو معنى صحيح في نفسه ودلت عليه روايات اخرى إلا انه لا يناسب أحاديث المقام وربما أورده ابن الأثير لأنه لم ينظر في بقية الحديث.