القبس/51(وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ) سورة الأنفال:45 - أهم قضايانا:أن نستحضر الله تعالى في وجداننا
(وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)
أهم قضايانا:أن نستحضر الله تعالى في وجداننا
من أهم الأهداف التي نسعى إليها والقضايا التي يجب أن نهتم بها ونكرس لها اوقاتنا هي كيف نجعل الله تعالى حاضراً في وجداننا وتنبض به قلوبنا ونصدِّق فعلاً أنه شاهد علينا ولا نغيب عن نظره سبحانه وهي الحالة التي أوصى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أبا ذر (رضوان الله تعالى عليه) بالوصول إليها (يا أبا ذر اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([1]).
أما أن نؤمن به تعالى نظرياً وفي عقولنا واذهاننا فهذا وحده لا يكفي، لذلك تجد نبي الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) يطلب هذا الاطمئنان القلبي من الله تعالى رغم إيمانه العقلي التام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة:260).
والشاهد على عدم كفاية الايمان العقلي وحده انك تجد الكثيرين ممن يحملون هذا المستوى من الاعتقاد لكنه لا ينعكس على سلوكهم وتعاملاتهم واخلاقهم فهم يتبعون أهوائهم وعصبياتهم وتحزّباتهم ويطيعون سادتهم وكبراءهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
ينقل عن أحد مراجع الدين وهو من أهل المعرفة (قدس الله نفسه) أنه سأل الحاضرين لديه:هل حقاً توجد جنة ونار وحساب؟ فقالوا له:مثلك من يسأل هذا السؤال وقد تعلمنا العقائد الحقة منك؟ فبيّن وجه السؤال وحاصله أنني لا أرى لهذا الاعتقاد أثراً في حياة الناس حتى بدا كأنه وهم وليس حقيقة وهذا وجه قول الامام الصادق (عليه السلام) ( ما خلق الله عز وجل يقيناً لا شك فيه اشبه بشك لا يقين فيه من الموت)([2]) لأن الجميع متيقنون من ملاقاة الموت عاجلاً أو آجلاً لكن لا أحد يظهر على عمله الاستعداد لهذا الآتي الا القليل.
ولذا تجد الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تركز على الاكثار من ذكر الله تعالى والمواظبة عليه وعدم الغفلة عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41) وليس المطلوب منه مجرد تحريك اللسان وانما استشعار كوننا بمحضر من الله تبارك وتعالى وانه شاهد علينا وناظر الينا في جميع احوالنا من السر والعلن وأنه وحده تعالى المؤثر في الخلق ولا تعمل الأسباب الاخرى الا بإذنه، وما يترتب على هذا الحضور من آثار المراقبة وإحسان العمل واجتناب المعاصي والذنوب والتوكل عليه وحده والطلب منه وتعلق الآمال به بفضل الله تعالى وكرمه.
إن ذكر الله تعالى يمكن أن يكون من خلال إثارة جوانب عديدة بحسب اسمائه الحسنى فيمكن ان تتناوله من جهة عظمة الله تعالى ببيان عظمة خلقه أو تناوله من جهة حكمة الله تعالى ببيان لطيف صنعه أو تناوله من جهة كرم الله تعالى ورحمته ببيان سعتهما أو تناوله من جهة حلمه ومغفرته وعفوه وهكذا، بلحاظ سائر الأسماء الحسنى، وهذا التنوع يكون بلحاظ استحقاق الشخص ومحط اهتمامه والباب الذي تدخل منه إلى قلبه، فقد يكون عالماً مادياً تريد هدايته أو شاباً مذنباً أو جاهلاً ساذجاً، أو مغتراً بالدنيا وغير ذلك من الحالات، فلكل واحد منهم ما يناسبه من الخطاب.
ولعل الاجدى والأكثر تأثيراً في هذا المجال تحبيب الله تعالى إلى القلوب وقد ذكرت الروايات لمن يعمل على ذلك أجراً عظيماً فقد روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (إني لأعرف ناساً ما هم انبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة:الذين يحبّون الله ويحببّونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فاذا أطاعوا الله أحبهم الله) ([3]) .
وقد ذكرنا في قبس سابق ([4]) عدة أساليب لتحبيب الله تعالى إلى خلقه منها تذكيرهم بنعمه تبارك وتعالى، روي عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال (أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أحبَّني وحببّني إلى خلقي، قال موسى (عليه السلام) يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبَّ إليَّ منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه:فذّكرهم نعمتي وآلائي فأنهم لا يذكرون مني الا خيرا) ([5]).
لقد كان المرجع الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله نفسه الزكية) مهتماً بهذه القضية ايَّما اهتمام وعندما أقام صلاة الجمعة المباركة انتقد صريحاً الطريقة السائدة لدى الخطباء والمتحدثين من الابتداء بسطر واحد فقط يضم الحمدلله تعالى والصلاة على النبي وآله ثم الدخول في سائر المواضيع الدينية، وكان يعتقد بلزوم تخصيص حصة كافية لذلك فكان يبتدئ بمقطع من الادعية الشريفة التي تعمّق هذا الايمان في قلوبنا ووجداننا.
ومن يتأمل في رسائله المنشورة في كتاب (قناديل العارفين) يجد هذا المعنى حاضراً والتأكيد على الذكر القلبي أكثر من اللساني، وذكر صوراً للذكر القلبي منها (التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه سبحانه ونحو ذلك) ([6]) .
أيها الأحبة:إن احياء هذا التفاعل الوجداني والعملي مع الله تبارك وتعالى هو أهم قضية في حياتنا وهو مفتاح السعادة والخير وبه صلاح الأمة ونجاتها مضافاً إلى ما ورد في الرواية السابقة من المنزلة العظيمة فلا تقصروا فيه وهي مسؤولية الجميع خصوصاً الخطباء والمبلغَّين والكتّاب والمثقفين والمتحدثين، ولا ثمرة في أي عملية إصلاحية مالم تستند على هذا الأساس الوثيق. اعاننا الله تعالى على طاعته ووفقنا لما يحب ويرضى إنه ولي النعم.
([1]) مكارم الأخلاق- الطبرسي: 459
([2]) من لا يحضره الفقيه:1/596 ، الخصال:14
([3]) مجمع الزوائد للهيثمي:1 / 126
([4]) راجع: قبس/32 {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54), من نور القرآن: 1/356.
([5]) بحار الأنوار:13/351، 14/38
([6]) قناديل العارفين:167