ملحق: تعرضوا لنفحات ربكم
ملحق: تعرضوا لنفحات ربكم
النفحات الخاصة:
ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها, لعله أن يصيبكم نفحة منها, فلا تشقُّوُنَّ بعدها أبداً)([1]), وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده, وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم)([2]).
والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية, وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:
1- التعبير بالنفحات، والنفحة: هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه([3]), وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء:46), وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها, فهو موقف حسن, وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (هود:8).
2- الأثر العظيم المترتب على التعرض لها, والتوفيق للشمول بها, بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء, ويحسم آمره في الصالحين والسعداء, بحيث لا يشقى بعدها أبداً.
ولتوضيحه بمثال نقول: أنه يصبح كالطالب؛ الذي يحرز درجات عالية في السعي السنوي؛ فيُعفى من الامتحانات النهائية, ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.
على أي حال؛ فالمراد من النفحات: ألطاف إلهيّة خاصة, بدلالة التعبير عنها بالنفحات؛ إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر, ولولاها لما خُلق الإنسان والكون, ولا استمر وجودهما.
لنتعرض لكل سُبل الطاعة:
وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صلى الله عليه واله) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها, واقتناص فرصها, وهي غير معروفة بالتحديد؛ لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته, كما أخفى سخطه في معصيته.
لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة, أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة, وفرص الخير, عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صلى الله عليه واله): (تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)([4]).
وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره, فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها, فقد غفر الله لك)([5]).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره, فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً)([6]), كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيُحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة؛ فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً, ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان, والسعي لنيل النجاح.
وعنه (عليه السلام) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يُريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)([7]).
المسارعة الى الخير:
وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:
1- إن الفرص تمرُّ مرَّ السحاب, وقد لا تتكرر؛ بل هي فعلاً لا تتكرر؛ لأن الفرصة الثانية هي غير الأولى, وإضاعة الفرصة غصة, وإن عُمر الإنسان, هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى, وكل ثانية من عمره, يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.
2- إن التأخير يُعطي فرصة للشيطان, والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)([8]).
3- إن القلوب لها أحوال متغيرة, فتارة تكون في إقبال على الطاعة, وأخرى في إدبار, فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال القلب- فقد يقع في الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالاً على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (عليه السلام): (أخبرك - أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك, فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا, ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ من عندك, فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)([9]).
4- إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها, وهذا ييّسر المضي على الطاعة, واجتناب المعصية, ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول: اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله, فإنما الدنيا ساعة, فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً, وما لم يأت فليس تعرفه, فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)([10]).
أشكال النفحات:
وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته, فينوّعها ويتفنن في عرضها, ويحاكي أذواق الناس بها, يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.
ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية, إلا أن لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد: (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد.
وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها, والأشهر الشريفة: رجب, وشعبان, ورمضان.
وبعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين, والدعاء للغير, وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب, خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء, وعند مجالسة العلماء, وبعد الصلوات المفروضة, وفي حال السجود.
لطف الله تعالى للجميع:
ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد, كما في أدعية شهر رجب (يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّناً مِنْهُ وَرَحْمَةً) و(بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرّاغِبينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطّالِبينَ، وَفَضْلُكَ مُباحٌ لِلسّائِلينَ، وَنَيْلُكَ مُتاحٌ لِلآمِلينَ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ)([11]) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.
أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قده) في مباحث المشتق وكان يفسر آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124), فقال (قده): (إن الآية عبّرت {لاَ يَنَالُ}, ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى, فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة, استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة, ومنها الإمامة, فهم يصعدون إليها لا هي تنزل إليهم)([12]).
فقلت له: - بعد الدرس- على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون فاعلاً وساعياً لنيل العهد, وعهدي مفعول به, وليس العكس, كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً, يجمع بين الفكرة والإشكال, وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد إلى تلك المرتبة. انتهى
وإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها, ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير)([13]).
طلبات جامعة:
وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْرِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ, جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ)([14]) وفي دعاء آخر (اَللّـهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ َاَنْ تُدْخِلَني في كُلِّ خَيْر اَدْخَلْتَ فيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد(صلى الله عليه واله)، وَاَنْ تُخْرِجَني مِنْ كُلِّ سُوء اَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّد صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ)([15]).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه واله) كان نزل على رجل بالطائف قبل الاسلام فأكرمه, فلما أن بعث الله محمداً (صلى الله عليه واله) إلى الناس قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس؟ قال: لا، قالوا له: هو محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب, وهو الذي كان نزل بك بالطائف يوم كذا وكذا فأكرمته، قال: فقدم الرجل على رسول الله (صلى الله عليه واله) فسلم عليه وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا رب المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية, يوم كذا وكذا فأكرمتك, فقال له رسول الله (صلى الله عليه واله): مرحباً بك سل حاجتك، فقال: أسألك مأتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله (صلى الله عليه واله) بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) بما سأل، فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل موسى؟ فقال: إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن أحمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام, فسأل موسى عن قبر يوسف (عليه السلام) فجاءه شيخ فقال: إن كان أحد يعرف قبره ففلانة، فأرسل موسى (عليه السلام) إليها فلما جاءته قال:تعلمين موضع قبر يوسف (عليه السلام)؟ قالت: نعم، قال: فدليني عليه ولك ما سألتِ: قالت: لا أدلك عليه إلا بحكمي، قال: فلك الجنة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عز وجل إلى موسى لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها فقال: لها موسى فلك حكمك، قالت: فإن حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة فقال رسول الله (صلى الله عليه واله): ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل)([16]).
وأنتم أيها الإخوة والأخوات بزيارتكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) والمساجد المعظمة في الكوفة والسهلة, والانطلاق منها سيراً على الأقدام إلى كربلاء, لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف من رجب, التي تسمى (الغفيلة) لغفلة الناس عن ثوابها.
وقطعكم هذه المسافة التي قطعتها عقيلة الهاشميين زينب بنت علي (عليها السلام) لإحياء ذكرى وفاتها، تكونون قد تعرضتم لكثير من نفحات الله تبارك وتعالى, وأتيتم بأسبابها في هذا الشهر الشريف.
فأرجوا أن يشملكم الله تبارك وتعالى بألطافه ونفحاته الخاصة.
ويشرِك معكم كل من أحبَّ عملكم, وأيّده, وقدّم الخدمة لكم, فإن (من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل القوم أشرك في عملهم)([17]).
([1]) المعجم الكبير- الطبراني: 19/ 234.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/769.
([2]) تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 24/123.- كنز العمال- المتقي الهندي: 7/769.
([3]) مجمع البحرين- الشيخ الطريحي: 4/341.
([4]) تنبيه الخواطر ونزهة الناظر (مجموعة ورام): ص439.
([5]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/142.
([6]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/143.
([7]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/142.
([8]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/143.
([9]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/423.
([10]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/459.
([11]) مفاتيح الجنان- عباس القمي: 229.
([12]) المشتق عند الأصوليين: 343.
([13]) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عليه السلام): 4/6.
([14]) مفاتيح الجنان- عباس القمي: 170.
([15]) مفاتيح الجنان- عباس القمي: 285.
([16]) الكافي- الشيخ الكليني: 8/155.
([17]) بحار الأنوار- المجلسي: 65/131.