القبس /8 (وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ) سورة البقرة:269- بيان معنى الحكمة وحقيقتها

| |عدد القراءات : 408
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ)

موضوع القبس: بيان معنى الحكمة وحقيقتها


نحاول فهم معنى الآية الشريفة والاستفادة منها عمليّاً في حياتنا من خلال توضيح عدّة نقاط:

معنى الحكمة:

1-      معنى الحكمة وحقيقتها:

الحكمة أخذت من (الحَكَمة) وهو لجام الدابة الذي يمنعها من التقّحم والاضطراب ويضبط حركتها([1]).

فكذلك الحكمة لجام للنفس الامارة بالسوء والشهوات والنزوات والانفعالات وترشّد افعال الانسان بما يوافق العقل والفطرة.

وأصل الكلمة (حَكَم) بمعنى (مَنَع) ولكن ليس مطلق المنع وإنما ما كان لإصلاح وسمي الحكم حكماً لان الحاكم العادل يمنع الظلم وسمي العلم حكمة لأنه يمنع المتصف به من الجهل، لذا فهي تعني الاتقان والإحكام وإحسان العمل وسميت الآيات محكمات لأنهن متقنات لا تقبل الاختراق.

الحكمة في القرآن واللغة:

فالحكمة - بحسب ظاهر القرآن الكريم واللغة لا ما شيّده الفلاسفة واضافوا فيه من عندياتهم - ما يضبط تفكير الانسان وإرادته وتوجهاته وسلوكه في الاتجاه الصحيح وتكون له بوصلة حياته، فتبدأ بالعلم النافع والمعرفة الحقة وتنتهي بالعمل بمقتضاهما والأخذ بهداهما ثم اتمامها بالثبات على ذلك.

وقد قيل في تعريف الحكمة اقوال عديدة تندرج ضمن هذا الاطار فقيل بأنها (إصابة الحق بالعلم والعقل), وانها (تحقيق العلم وإتقان العمل), أو (ما يمنع من الجهل والاصابة في القول), (وقال ابن دريد كل ما يؤدي الى مكرمة او يمنع من قبيح، وقد يطلق على العلوم الفائضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما يعلم)([2]).

كل ما يوصل الى الأهداف السامية من الخلقة:

وكذلك فسرَّت الروايات الشريفة الحكمة الواردة في الآيات القرآنية بتفاسير عديدة, هي عبارة عن مصاديق وآليات لهذا الإطار العام, أي كل ماله دخل في الوصول الى الهدف، ففي الكافي والمحاسن للبرقي وتفسير العياشي, عن أبي عبد الله (عليه السلام) في (قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269), فقال (عليه السلام): طاعة الله ومعرفة الإمام)([3]).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول (عليه السلام): {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال (عليه السلام): معرفة الامام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار)([4]).

وفسرّها الامام الباقر (عليه السلام) بالمعرفة([5]), وعن سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} فقال (عليه السلام): ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه)([6]).

وفي الحديث النبوي الشريف (القرآن منار الحكمة)([7]).

شرف الحكمة:

2-          شرف الحكمة وفضلها:

وقد اكتسبت الحكمة أهمية كبرى في حياة الساعين الى الكمال والراغبين في رضوان الله عز وجل، لما ورد فيها من الفضل والشرف حيث وصفتها الآية الكريمة بانها خير كثير، وجعل تحصيلها الغرض من بعث النبيين (عليهم السلام) قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} (آل عمران:81), وعن نبينا (صلى الله عليه واله), قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:164).

وفي الحديث النبوي الشريف: (كلمة الحكمة يسمعها المؤمن خير من عبادة سنة)([8]),وفي مواعظ عيسى (عليه السلام) (إن الحكمة نور كل قلب)([9]), وعن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (كاد الحكيم أن يكون نبياً)([10])، وفي كتاب منية المريد للشهيد الاول (قده) أنه مكتوب في التوراة قول الله تبارك وتعالى (عظّم الحكمة فأني لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم أعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة)([11]).

لانها كما وصفها الامام الصادق (عليه السلام) (الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق، وما انعم الله على عبد من عباده نعمة انعم واعظم وأرفع اجزل وابهى من الحكمة للقلب، قال الله عز وجل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (البقرة:269)، أي لا يعلم ما أودعت وهُيأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها، والحكمة هي النجاة وصفة الحكمة الثبات عند اوائل الامور والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق الله الى الله تعالى، قال رسول الله (صلى الله عليه واله) لعلي (عليه السلام) (لأن يهدي الله على يديك عبداً من عباد الله خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها الى مغاربها))([12]).

ولأهمية طلب الحكمة الموصلة الى الله تعالى التي فسرتها بعض الروايات بالتفقه بالدين لم يجد الأئمة (عليهم السلام) عذراً لتارك طلبها، روى البرقي في المحاسن عن الامامين الصادقين (‘) (لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدّبته)([13]), قال وكان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: (تفقّهوا وإلا فأنتم اعراب)([14]).

ضالة المؤمن:

3-          الحكمة ضالة المؤمن:

ولذا اصبح طلب الحكمة والبحث عنها من صفات المؤمنين بغض النظر عن مصدرها انطلاقاً من كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) (لا تنظر الى من قال وأنظر الى ما قال)([15])، وعنه أيضاً انه قال: (الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)([16]), وفي كلمة أخرى (فأطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها)([17]).

وهذا الطلب للحكمة من اي مصدر كان له ما يبررّه، من مواعظ عيسى (عليه السلام) قال: (لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لأستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتِنه، كذلك ينبغي لكم ان تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها)([18]).

ووصف الحكمة بانها ضالة المؤمن يحمل عدّة معانٍ منها:

أ‌-             ان صاحب الضالّة - وهو الحيوان الشارد التائه- كما لا يستقر له قرار حتى يجد ضالته، كذلك المؤمن عليه ان لا يتوقف عن السعي لطلب الحكمة، حتى يقتنصها من اي مصدر كان.

ب‌-        إن الضالة ملك لصاحبها فيأخذها من دون منازع، وعلى كل من يجدها أن يعيدها الى صاحبها, وكذلك الحكمة فأن المؤمن أحق بها فلابد من إيصالها اليه، عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (كلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها)([19]).

ت‌-        كما ان الضالة تبقى قلقة مضطربة عند من يلتقطها حتى تعـود الـى صاحبها وراعيهـا لأنسها به وبرعايته ورفيقاتها في الحضيرة، كذلك الحكمة لا تستقر عند غير صاحبها فيخرجها ليلتقطها المؤمن الذي هو صاحبها وبهذا المعنى وردت كلمات عديدة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (خذ الحكمة أنّى كانت، فان الحكمة تكون في صدر المنافق فتلّجلجُ في صدره حتى تخرج فتسكن الى صواحبها في صدر المؤمن)([20]).

تحروا الحكمة:

المطلوب تحري الحكمة والموعظة واقتناصها من كل شيء حولك وتحويلها الى سلوك عملي (قيل للقمان:ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من العميان: لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه. وقيل للقمان ممن تعلمت الأدب؟ فقال: ممن لا ادب لهم فأجتنبت كل ما استهجنته منهم)([21]).

وهذا وجه لفهم سبب ورود الفعل في الآية مبنيّاً للمجهول {وَمَن يُؤْتَ} {أُوتِيَ} رغم ان الواهب معروف وهو الله تعالى لكن في ذلك اشارة الى ان الحكمة امر مرغوب ومطلوب بغّض النظر عن مصدرها.

تقسيمات الحكمة:

4-          تقسيمات الحكمة:

وفي ضوء ما تقدم ومن استقـراء الآيات الكريمة والروايات الشريفة نتوصل الى ان الحكمة على ثلاثة اقسام([22])، وهي في الحقيقة ثلاث مراتب ومراحل ودرجات تفضي الواحدة الى الاخرى بفضل الله تبارك وتعالى.

الأولى: الحكمة العلمية:

وهي العلوم والمعارف التي اتى بها الانبياء والمرسلون والائمة (عليهم السلام) لتكميل نفوس الناس وتشمل علوم العقائد والاخلاق والشريعة والمواعظ والامثال والسنن الالهية والآيات الكونية ونحو ذلك، وقد تضمّنها القرآن الكريم لذا وصف بالحكيم ووصفته آياته بقول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء:39), وجعل ايصال هذه الحكمة وتعليمها هدف بعثه النبيين، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164), ومثلها (الجمعة:2) و(البقرة:129-151).

الثانية: الحكمة العملية:

وهي الممارسة العملية المؤدية الى التكامل من خلال الالتزام وتطبيق تلك الحكمة العلمية، وسياتي في روايات كثيرة اطلاق الحكمة على جملة من هذه الممارسات.

الثالثة: الحكمة الحقيقيّة:

وهي حالة الانكشاف والنورانية التي يهبها الله تعالى لمن نجح في المرحلتين السابقتين وهو العلم والفقه الحقيقي المقصود في الآيات والروايات كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28).

ونتيجته حصول المعرفة بحقائق الاشياء هبة من الله تعالى، ففي الآية محل البحث {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ}, وقال في حـق لقمـان الحكيـم {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12).

كيفية الحصول على الحكمة:

5- مقدمات الحصول على الحكمة:

الآية صريحة بأن الحكمة فضل من الله يؤتيه من يشاء، وفي الحديث عن امير المؤمنين (عليه السلام) (لا حكمة الا بعصمة)([23])، اي من الله تعالى، ومع هذا فان لتحصيل الحكمة مقدّمات ومقومات فينبغي تحقيقها، وموانع تجب ازالتها.

اي ان لتحصيلها ركنين اشارت اليها الروايات الشريفة:

أ‌-             ايجاد المقدمات مثل ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (رأس الحكمة مخافة الله)([24]).

وعن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: (حفظ الدين ثمرة المعرفة ورأس الحكمة), وعنه (عليه السلام) قال: (رأس الحكمة تجنب الخداع), وعنه (عليه السلام) (رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق)([25]).

ب‌-        ازالة الموانع مثل ما ورد عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: (اغلب الشهوة تكمل لك الحكمة)([26]), وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (من زهد في الدنيا اثبت الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه)([27]).

وفي الحديث القدسي في المعراج: (يا احمد ان العبد اذا أجاع بطنه وحفظ لسانه([28]) علمته الحكمة، وان كان كافرا تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وان كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً وبرهاناً وشفاءاً ورحمةً، فيعلم مالم يكن يعلم ويبصر مالم يكن يبصر، فأوّل ما ابصّره عيوب نفسه حتى يشتغل عن عيوب غيره، وابصّره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان)([29]).

وعن امير المؤمنين (عليه السلام) (التخمة تفسد الحكمة، البطنة تحجب الفطنة) وعنه (عليه السلام) (لا تجتمع الشهوة والحكمة)([30]).

وفي كلام منسوب لأمير المؤمنين (عليه السلام) (من اخلص لله اربعين صباحا يأكل الحلال صائما نهاره وقائما ليله اجرى الله سبحانه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)([31]).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (الغضب ممحقة لقلب الحكيم، ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله)([32]).

  وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) (إن الزرع ينبُتُ في السَّهل ولا ينبُتُ في الصَّفا، فكذلك الحكمة تعمرُ في قلب المتواضع، ولا تعمرُ في قلب المتكبّر الجبّار, لأن الله جعل التواضع آلة العقل)([33]).

وعن عيسى (عليه السلام) (إنه ليس على كل حال يصلح العسلُ في الزِّقاق([34])، وكذلك القلوب ليس على كل حال تعمر الحكمة فيها، إن الزِّقَّ ما لم ينخرِق أو يَقحَل- اي ييبس - أويَتْفَلْ - اي تكون فيه رائحة نتنة - فسوف يكون للعسل وعاء، وكذلك القلوب ما لم تخرِقها الشهوات ويدّنسها الطمع ويقسِها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة)([35]).

وعن الإمام الهادي (عليه السلام): (الحكمة لا تنجعً في الطباع الفاسدة)([36]).

وعن الإمام علي (عليه السلام): (غير منتفع بالحكمة عقل معلول بالغضب والشهوة), وعنه (عليه السلام): (غير منتفع بالعِظات قلب متعلِّق بالشهوات)([37]).

آثار الحكمة:

6- من اثار الحكمة على السلوك:

وقد نبّهت الروايات الى عدد من السلوكيات التي تُعتبر من آثار وجود مرتبة من مراتب الحكمة لدى الانسان، اي ان الحكمة لابد ان تظهر لها آثار على صاحبها، عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لابد له من معاشرته، حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً)([38]).

وعن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ليس الحكيم من لم يدارِ من لا يجدُ بداً من مداراته)([39]), وعنه (عليه السلام) قال: (ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضّي بثناء الجاهل عليه)([40]), وعنه (عليه السلام) (الحكماء اشرف الناس انفساً،  واكثرهم صبرا، واسرعهم عفوا واوسعهم اخلاقاً)([41]).

لقمان الحكيم:

7- لقمان ينال الحكمة:

قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان:12), فهو ممن وصل مرتبة الحكمة الحقيقية، روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قوله: (حقا اقول: لم يكن لقمان نبياً, ولكن كان عبداً كثير التفكر, حسن اليقين، احبَّ الله فاحبَّهُ, ومنّ عليه بالحكمة)([42]).

ومن كلماته الحكمية التي رواها الائمة المعصومون (عليهم السلام) وهو يوصي ابنه: (يا بني ان الدنيا بحر عميق قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الايمان، واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله، فان نجوت فبرحمة الله ، وان هلكت فبذنوبك.

يا بني: خفِ الله خوفا لو اتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت ان يعذبَّك، وارجُ الله رجاءاً لو وافيتَ القيامة بأثم الثقلين رجوت ان يغفرك لك.

واعلم: انَّك ستسأل غداً اذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن اربعة: شبابك فيما ابليته، وعمرك فيما افنيته، ومالك فيما اكتسبته وفيما انفقته، فتأهب لذلك واعدَّ له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذركّ وجدَّ في امرك)([43]).

ومثل هذه الكلمات لا يكفي ان نقراها او نسمعها ونمَّر عليها بل لابد من الاحتفاظ بها ومراجعتها باستمرار وتكفلت كتب بجمع هذه الحكم كموسوعة (ميزان الحكمة)([44]).


 

التأسي بلقمان الحكيم:

8- هل يمكن ان تكون مثل لقمان الحكيم:

والجواب: نعم، لان ايتاء الحكمة فضل من الله تعالى مفتوح ومعروض لكل من يستحقه, ولذا حثّت الآية الكريمة على ان نكون من اهلها، وذلك اذا سرت على المنهاج المؤدي لتحصيلها كالذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه واله) آنفاً عن لقمان الحكيم, علماً وعملاً.

وقد ورد في عدّة روايات توصيف عدد من اصحاب اهل البيت (عليهم السلام) انهم مثل لقمان الحكيم, فقد روي عن الامام علي (عليه السلام) في وصف سلمان الفارسي, قوله: (من لكم بمثل لقمان الحكيم، وذلك امرؤ منّا اهل البيت، ادرك العلم الاول وادرك العلم الاخر، وقرأ الكتاب الاول وقراء الكتـاب الاخـير بحـر لاينزف)([45]).

بل عن الامام الصادق (عليه السلام) (سلمان خير من لقمان)([46]), وورد مثل ذلك في ابي حمزة الثمالي ويونس بن عبد الرحمن فقد روى الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول:  سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (ابو حمزة الثمالي في زمانه كلقمان في زمانه، وذلك انه خدم اربعة منا: علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وبرهة من عصر موسى بن جعفر (عليهم السلام)، ويونس بن عبد الرحمن كذلك هو سلمان زمانه)([47]).

هذه هي الحكمة التي فيها خير كثير، فاطلبوها طول عمركم ودوّنوا ما ترزقون منها في دفتر خاص لتستفيدوا منها دائما وتراجعوها وتتعظوا بها وتتخذوها برنامجاً لحياتكم.

التحلي بالحكمة لا بالعبادة فقط:

9- الحكمة اساس لتقييم الاشخاص:

صحيح ان التدين اساس تقييم الاشخاص فيُعطى قيمة اكبر كلما كان التزامه باحكام الشريعة ادّق واكثر, إلا ان الدين لا يقتصر على العبادات المعروفة، فاذا اردنا التعامل مع شخص كمصاحبته ومصادقته او تزويجه ومصاهرته، فانه لا يكفي ان يكون ملتزماً بالواجبات الدينية المعروفة كالصلاة والصوم وتجنب الكبائر كشرب الخمر والزنا, وان كان في هذا خير كثير، وانما نبحث ايضاً عن حكمته وتعقلّه, لان الحكمة عُبر عنها  في الكثير من الاحاديث بالعقل.

وذلك يعني ان نختبر حسن تصرفه ومعاشرته وتعامله, وانه يضع الامور في مواضعها, ويتحلى بالحكمة والاخلاق الفاضلة، وقد وردت في ذلك احاديث شريفة، منها ما اشتهر عن اهل البيت (عليهم السلام) روايتهم لحديث جدهم المصطفى (صلى الله عليه واله) (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجّوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير)([48]). فلم يكتفِ الحديث بان يكون دينه مرضيّاً بل ان تكون له حكمة في تصرفاته.



([1]) لسان العرب ابن منظور: ١٢ / ١٤4

([2]) أنظر: بحار الانوار- المجلسي: 1/215- لسان العرب- ابن منظور: 12/140.

([3]) المحاسن- البرقي: 1/148.- الكافي- الشيخ الكليني: 1/185.

([4])الكافي- الشيخ الكليني: 2/284.

([5]) بحار الأنوار- المجلسي: 1/215.

([6]) تفسير العياشي- العياشي: 1/151.

([7]) تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي: 1/287.

([8]) بحار الأنوار- المجلسي: 74/172.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/431.

([9]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 512.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/431.

([10]) كنز العمال- المتقي الهندي: 16/117.- ميزان الحكمة- الريشهري: 2/431.

([11]) بحار الأنوار- المجلسي: ١/ ٢٢٠/ح57.

([12]) مصباح الشريعة- المنسوب للإمام الصادق(عليه السلام):١٩٨- بحار الأنوار- المجلسي:1/215.

([13]) المحاسن- البرقي: 1/228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/214.

([14]) المحاسن- البرقي: 1/228.- بحار الأنوار- المجلسي: 1/214.

([15]) كنز العمال- المتقي الهندي: 16/269- غرر الحكم: ح10189.

([16]) نهج البلاغة: 4/18/ خطب الإمام علي (عليه السلام).

([17]) الأمالي- الشيخ الطوسي: 625.- بحار الأنوار- المجلسي: 2/97.

([18]) بحار الأنوار- المجلسي: 75/307.- تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 392.

([19]) كنز العمال- المتقي الهندي: 16/112.

([20]) نهج البلاغة: 4/18/ خطب الإمام علي (عليه السلام).

([21]) حکم لقمان- الريشهري: 8.

([22]) ذكر العلماء تقسيمات اخرى، وانما ذكرنا ما يرتبط بفكرة البحث.

([23]) العلم والحكمة في الكتاب والسنة- الريشهري: ٩٤.

([24]) من لا يحضره الفقيه- الشيخ الصدوق: 4/376.

([25]) أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 673.

([26]) ميزان الحكمة- الريشهري: 1/ 674.

([27]) بحار الأنوار- المجلسي: 2/33.

([28]) ليس فقط عن المحرمات بل عن فضول الكلام ايضا، روي في عدة مصادر: ان لقمان كان عبداً لداوود (عليه السلام) وهو يسرد الدرع فجعل يُفتله هكذا بيده، فجعل لقمان (عليه السلام) يتعجب ويريد ان يساله، وتمنعه حكمته ان يساله، فلما فرغ منها صبّها على نفسه وقـال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان: الصمت من الحكمة وقليل فاعله، كنت اردت ان اسالك فسكت حتى كفيتني) الدر المنثور- السيوطي: 6/513, ومصادر اخرى, ذكرها في الهامش مفردات الراغب:450.

([29]) بحار الأنوار- المجلسي: 74/29.

([30]) أنظر: ميزان الحكمة - الريشهري: 1/674.

([31]) حكم لقمان- الريشهري: 26, عن مسند زيد بن علي: 384.

([32]) الكافي- الشيخ الكليني: 2/305.

([33]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 396.

([34]) الزِّق وعاء من الجلد كالقربة يُتخذ لحفظ ونقل المائعات كالعسل والدبس ونحو ذلك.

([35]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 504.

([36]) أعلام الدين في صفات المؤمنين- الديلمي: 311.- بحار الأنوار- المجلسي: 75/370.

([37]) أنظر: ميزان الحكمة- الريشهري: 1/675.

([38]) كنز العمال- المتقي الهندي: 9/27.

([39]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 218.

([40]) تحف العقول- ابن شعبة الحراني: 208.

([41]) ميزان الحكمة- الريشهري: 1/670.

([42]) بحار الأنوار- المجلسي: 13/424.

([43]) تفسير القمي: 2/164.- الكافي- الكليني: 2/135.

([44]) ميزان الحكمة- الشيخ محمد الريشهري: 1/622.

([45]) بحار الانوار: 10/123/ح2.- تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر: 21/422.

([46]) بحار الانوار: 22/331/ح42.

([47]) رجال الكشي: 302, ترجمة يونس بن عبد الرحمن.

([48]) الكافي- الشيخ الكليني: 5/347.