القبس /3 (فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ) سورة البقرة:152
(فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ)
تشريف وتكريم من الخالق العظيم لعباده, بأن يقرن ذكره بذكرهم ويبادلهم الذكر, فيذكرهم اذا ذكروه, ومن دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) (إلهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42), وَقُلْتَ, وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152), فَأَمَرْتَنا بِذِكْرِكَ، وَوَعَدْتَنا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنا تَشْرِيفاً لَنا وَتَفْخِيمَاً وَإعْظامَاً، وَها نَحْنُ ذاكِرُوكَ كَما أَمَرْتَنا، فَأَنْجِزْ لَنا مَا وَعَدْتَنا يا ذاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ)([1]).
بينما لا يطمع الانسان في ان يذكره إنسان ضعيف عاجز مثله, وهو يعشقه ويصفّق له ويلهج باسمه ويلهث وراءه ويدافع عنه, وربما يُضحي من اجله, والآخر لا يعرفه, ولا يقيم له وزناً, فشتّان بين المعبودين!
والمُراد بذكر الله تعالى عبده اذا ذكره, منحه العطاء الخاص, وترتيب الأثر المناسب, والا فان الله تعالى لا يغفل عن عباده, ولا يهملهم, وهم يتقلبون بنعمه دوماً {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد:4).
وهذا العطاء الخاص له اشكال عديدة, ويتناسب مع نوع الذكر, لأن ذكره لله تعالى يجعله مؤهلاً لنزول البركات والمنن والعطايا، ففي حديث نبوي شريف في تفسير الآية: (اذكروني يا معاشر العباد بطاعتي, اذكركم بمغفرتي)([2]), والطاعة تشمل الواجب والمستحب، والمغفرة تشمل محو الذنوب المقترفة, أو عصمة العبد ووقايته من الوقوع في غيرها.
أو يذكره الله تعالى بالرحمة اذا ذكر ربّه بالطاعة, قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132).
وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه واله): (اذكروني بالطاعة والعبادة, اذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان)([3]).
أو يذكر ربّه بالشكر, فيذكره بزيادة النعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم:7).
او اذكروني بالدعاء لأذكركم بالإجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60).
او اذكروني في الدنيا, لأذكركم في الآخرة.
او اذكروني في عالمكم الصغير, لأذكركم في العالم الكبير, ونحو ذلك مما ورد في الاحاديث الشريفة.
ففي الحديث النبوي الشريف قال الله تعالى: (انا عند ظن عبدي بي, وانا معه اذا ذكرني، فان ذكرني في نفسه, ذكرته في نفسي, وان ذكرني في ملأ, ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرّب اليّ شبراً, تقربتُ إليه ذراعاً)([4]).
وفي الحديث الآخر عن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (قال الله عز وجل ذكره: لا يذكرني أحد في نفسه, الا ذكرته في ملأ من ملائكتي, ولا يذكرني في ملأ, الا ذكرته في الرفيق الأعلى)([5]).
ولذا يحظى ذكر الله تعالى بأهمية كبيرة, ومن الأسباب القوية لبلوغ الكمالات، وفي الحديث الشريف: (أحب الاعمال الى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)([6]), أي يكون الانسان في ذكر مستمر, حتى اذا فاجأه الموت, كان لسانه رطباً بذكر الله تعالى.
وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه واله): (ليس يتحسّر أهل الجنة الا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)([7]), وروي عنهم (عليهم السلام): (إن في الجنة قيعاناً([8])، فاذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)([9]).
وروى في عدة الداعي, ان رسول الله (صلى الله عليه واله) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه واله) وما رياض الجنة، قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبُّ ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فان الله تعالى يُنزّل العبد حيث انزل العبد الله من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم وأزكاها وارفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه, فإنه أخبر عن نفسه فقال: انا جليس من ذكرني)([10]).
وفيه ايضاً عن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (قال سبحانه: اذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فاذا كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حلت بينه وبين ان يسهو، اولئك اوليائي حقا، أولئك الابطال حقاً، أولئك الذين اذا اردت أن أهلك اهل الأرض عقوبةً ذويتها عنهم من أجل أولئك الابطال)([11]).
والأصل في الذكر حضور المعنى في القلب وتأثيره في الجوارح, وليس مجرد تحريك اللسان به, وإن كان هذا لا يخلو من ثمرة طيبة، لكن المطلوب حصول تلك المراتب, روى في كتاب المعاني عن ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (الا أحدثك بأشد ما فرض الله تعالى على خلقه؟ قلت: بلى، قال: انصاف الناس من نفسك ومواساتك لأخيك, وذكر الله في كل موطن، اما اني لا أقول, سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن, اذا هجمت([12]) على طاعته او معصيته)([13]).
فتتخذ الموقف الذي يُرضي الله تعالى في كل تلك المواطن, وفي الحديث النبوي الشريف: (من اطاع الله فقد ذكر الله, وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله, وان كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)([14]).
وهذا يبين لنا بوضوح المقياس الذي يُعرف به الذكر والذاكر وعدم الاكتفاء بالحركات الخارجية.
وعلى هذا فالذكر له مصاديق واسعة تشمل كل الطاعات، ومنها طلب العلم والحضور في مجالس الوعظ والإرشاد وحلقات العلم.
هذا الرصيد الضخم الذي يكتسبه الانسان بالذكر, يمكن ان يُفرّط به ويُضيّعه, بسبب ارتكابه بعض الحماقات, غفلة او انسياقاً وراء اهواء النفس, ففي الحديث الشريف: (من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة, ومن قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة. فقال: رجل من قريشيا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال(صلى الله عليه واله): نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها, وذلك إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد:33))([15]).
وهذه النيران يمكن أن تكون الغِيبة أو الحسد أو الظلم أو انتقاص وإهانة الآخرين, أو التقصير في القيام بعمل إنساني, كان قادراً عليه.
وعلى الانسان ان يتجنّب كُل ما يُلهيه عن ذكر الله تعالى ويشغله عنه من أمور الدنيا واتباع الشهوات والاهواء, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9).
وهو ما يبتغيه شياطين الانس والجن {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91), فيقع الانسان في الغفلة الموجبة للبعد عن الله تعالى والوقوع في المعاصي، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (ليس في المعاصي أشدُّ من اتباع الشهوة فلا تُطيعوها فتشغلكم عن الله)([16]), وعنه (عليه السلام) قال: (كل ما الهى عن ذكر الله فهو من ابليس)([17]).
وينبغي الالتفات إلى ان هذه الملازمة بين ذكر الله تعالى وذكر العبد قد تكون سلاحاً ذا حديّن, فتكون العقوبة على من يعصي الله تعالى وهو ملتفت وذاكر مضاعفة، ففي الدر المنثور عن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (فمن ذكرني وهو مطيع فحقَّ عليّ أن اذكره بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاصٍ فحقَّ عليّ ان أذكره بمقت)([18]).
وفي نفس المصدر: (عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى داود قُل للظلمة لا يذكروني, فإن حقاً عليَّ أذكر من ذكرني، وأن ذكري إيّاهم أن ألعنهم)([19]).
([4]) مستدرك الوسائل- الميرزا النوري: ٥/٢٩٨. واخرجه السيوطي في الدر المنثور عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الايمان. الدر المنثور - جلال الدين السيوطي: ١/١٤٩.
([8]) القاع والقاعة والقيع: أرض واسعة سهلة مطمئنة مستوية حرة لا حزونة فيها ولا ارتفاع ولا انهباط، تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر، وما حواليها أرفع منها وهو مصب المياه. لسان العرب - ابن منظور: 8/304.
([12]) في بعض النسخ (هممت) والمناسب للطاعة كلمة (هممت) والمناسب للمعصية (هجمت). راجع هامش: الكافي - الشيخ الكليني: 2/145- بحار الأنوار- العلامة المجلسي: 72/35.