ملحق: أمير المؤمنين: (عليه السلام) نقطة الباء في البسملة ومعركة التأويل
ملحق: أمير المؤمنين: (عليه السلام) نقطة الباء في البسملة ومعركة التأويل
وروى الشعراني : عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه كان يقول : لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيراً من معنى (الباء)([1])
وروى القندوزي الحنفي في (ينابيع المودّة) ما لفظه : وفي الدرّ المنظم: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة في البسملة ، وجميع ما في البسملة في باء البسملة ، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء ، قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه : أنا النقطة التي تحت الباء.)([2])
أقول : (في) تدل على الظرفية والاحتواء فالحديث يدّل على ان في الفاتحة جميع مافي القرآن وزيادة، وان البسملة فيها جميع مافي الفاتحة وزيادة وهكذا، ولا شك ان مثل هذه الاحاديث لا تدركه عقولنا القاصرة
واعتبر بعض المفسرين هذا الكلام غير معقول ونوعا من الغلو([3])
ونقدٍّم الان وجها لفهم الحديث بعيداً عن التأويلات الفلسفية والعرفانية ننطلق اليه مما ورد في أن امير المؤمنين (عليه السلام) يقاتل على التأويل كما قاتل رسول الله (صلى الله عليه واله) على التنزيل كما في الحديث الآتي، أي أن رسول الله (صلى الله عليه واله) قاتل العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه واله) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.
أما بعد وفاته (صلى الله عليه واله) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.
وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله (صلى الله عليه واله) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه واله) فانقطعت نعله، فتخلّف علي (عليه السلام) يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً (عليه السلام)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله (صلى الله عليه واله) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين)([4]).
وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:
نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله([5])
هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً لقوله (عليه السلام) انه نقطة الباء التي جمعت فيها علوم القرآن ومعارفه وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر (عليه السلام) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) ([6]) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي .. يعطي للحرف معناه، كذلك أمير المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.
ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) لكانت تفاصيل العقائد والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليعرف تأويل المتشابهات {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7).
إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب المقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.
وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء (B)، وعندما تولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله (صلى الله عليه واله)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي (صلى الله عليه واله) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنّهم على الباطل)([7]).
هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.([8])
إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل هي مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (قال رسول الله (صلى الله عليه واله): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير([9]) خبث الحديد)([10]).
وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة (عليهم السلام) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثر في الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم (عليه السلام) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر (هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو)([11]).
وحديث الإمام الكاظم (عليه السلام) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك – أي الفرج بظهور الإمام (عليه السلام) –حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل)([12]).
وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.
ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (قال: قال (عليه السلام) إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار)([13]).
وفيه روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) قوله (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)([14]).
وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب)([15]) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.
إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم (صلى الله عليه واله) وولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.
فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري (عليه السلام) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته، والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.