خطاب المرحلة (514) من مظاهر الكرم الالهي دعاء (اللهم لقنِّي حجتي يوم القاك)
من مظاهر الكرم الالهي
دعاء (اللهم لقنِّي حجتي يوم القاك)([1])
من الاذكار المصاحبة لأفعال الوضوء الدعاء عند المضمضة (اللهم لقنِّي حجتي يوم القاك) أي اللهم علّمني وعرفّني بالحجة التي انتفع بها وادافع بها عن نفسي يوم القيامة حين القاك وحين اقف للحساب على كل ما صدر مني في حياتي، والحاكم المطلق يومئذٍ هو الله تبارك وتعالى (مالك يوم الدين)، فالله تعالى يعلمنا أن نسأله تزويدنا بالحجج والاعذار والأدلة التي نقدّمها بين يديه تبارك وتعالى لنتخلص من التبعات والاوزار التي جنيناها على أنفسنا.
إنه مظهر من مظاهر الرحمة والكرم الإلهي، فأيُّ قاضٍ وأيُّ خصم يعلّم خصمه الجاني الظالم ما يخلصّه من صاحب الحق، واذكر لكم بعض ما علمنا الله تعالى من هذه الحجج.
منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)([2]) (الانفطار:6)، ففي الوقت الذي يعاتب الانسان بما هو انسان عاقل مدرك قد أختاره الله تعالى لخلافته وأكرمه وفضّله على كثير ممن خلق وأغدق عليه ما لا يعدُّ ولا يحصى من النعم، ويسأله ما الذي دعاك أيها الانسان الى العصيان والتمرد وتجاوز الحدود، وما الذي اغراك بمخالفة ما أمرك به ربّك الذي توّلى تربيتك ورعايتك وصنعك بأحسن تقويم، في نفس الوقت يعلّمه العذر لأنه تعالى يعلم ان الانسان لا يملك حجة يدافع بها عن نفسه وهو في حالة ذهول وخوف فعلمه الجواب الذي يعتذر به بان يطلق على نفسه سبحان وصف (الكريم) ليجيب الانسان على الفور (غرّني كرمك يا الهي) وسترك المرخى عليَّ وحلمك الطويل عني وعدم مؤاخذتي، ولو كانت العقوبة تأتي مباشرةً لارتدع الناس، فالله تعالى يعلم أن العبد لا عذر له ولا حجة (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام:149) وفي دعاء امير المؤمنين (×) المعروف بدعاء كميل (فَلَكَ اَلْحُجَّةُ عَلي في جَميعِ ذلِكَ وَلا حُجَّةَ لي فيما جَرى عَلَيَّ فيهِ قَضاؤُكَ وَاَلْزَمَني حُكْمُكَ وَبَلاؤُكَ)([3]).
(ومنها) ما في دعاء الامام السجاد (×) المعروف بدعاء أبي حمزة بقوله (إلهي ان ادخلتني الجنة ففيه سرور نبيك(’) وان أدخلتني النار ففيه سرور عدوّك، وانا اعلم ان سرور نبيك (’) أحبُّ اليك من سرور عدوّك) لاحظ كيف يعلّمك ماذا تقول بين يدي الله تعالى لتشملك الرحمة الإلهية لان الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، فإنني يا الهي وان كنت مثقلاً باوزاري وذنوبي التي احتطبتها على ظهري الا انني محسوب على نبيك (’) لأنني مسلم وموحّد فان أدخلتني النار سيشمت بي الكافر والمشرك ويقولان ما فرقك عنا وماذا نفعك اسلامك وتوحيدك الذي كنت تدعونا اليه وأنت معنا في النار وان الله تعالى لا يرضى ان يسبّب الحرج والذلة والاهانة لعبد آمن به.
(ومنها) البيتان اللذان روي ان أمير المؤمنين (×) كتبهما على كفن سلمان الفارسي عند وفاته في المدائن من المدينة المنورة وهما:
وفدتُ على الكريم بغير زاد من الحسنات والقلب السليم
فحمل الزاد اقبح كل شـيء اذا كان الوفود على الكريـمِ
فهذا هو ما تقدمه بين يدي الله تعالى الاعتراف بتضييع العمر بتوافه الأمور والالتهاء بشواغل الدنيا الفانية، حتى وهو في عبادته تراه لاهياً عابثاً مشغول البال وربما غير مخلص النية، ولم تتزود بما ينفعك ودلَّك عليه الله تبارك وتعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة:197).
عجزك عن تقديم أي شيء سوى حسن ظنّك بالله تعالى وانه كريم ويقبح أصطحاب الزاد عند النزول ضيفاً على الكريم، (اِلهى، ها اَنَا اَتَوَسَّلُ اِلَيْكَ بِفَقْري اِلَيْكَ، وَكَيْفَ اَتَوَسَّلُ اِلَيْكَ بِما هُوَ مَحالٌ اَنْ يَصِلَ اِلَيْكَ)([4]).
وورد في الروايات: ان الانسان يحاسب يوم القيامة فتترّجح سيئاته ويؤمر به الى جهنم فيسوقه الملائكة وهو لا يقدر ان يدفع عن نفسه لكنه يلتفت الى وراءه حيث يجري الحساب فينادى لماذا تلتفت فيقول ربي اني كنت احسن الظن بك ان ترحمني وتجيرني من عذابك فيقول الله تعالى للملائكة انفذوا حسن ظنه بي ولا ترموه في النار وروي في الحديث عن النبي (’) (رأيت رجلاً من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكَّن رعدته)([5]).
بأمثال هذه الحجج تستدرّ عطف ورحمة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) فانهم مظاهر رحمة الله تعالى وكرمه، روي ان النبي (’) لما دخل مكة فاتحاً منتصراً، ومعه جيش ضخم، ومشركوا قريش اذلاء مهزومون قد طأطأوا رؤوسهم خجلاً من رسول الله (’) حيث عذبّوه وشرّدوه واتباعه وحاربوه وقتلوا أعزّته وكان (’) مالكاً لاعناقهم ومقتدراً على فعل ما يشاء بهم، ولو حكم عليهم بالاعدام لكان حكمه حقاً وعدلاً بجرائمهم الكبيرة والكثيرة، فسألهم: ما تظنون انني فاعل بكم؟ قالوا: اخ كريم وابن عم، فليس لهم شفيع عنده الا كرمه وانه وصول للرحم فقال (’): اذهبوا فانتم الطلقاء فعفا عنهم وأعاد اليهم مراكزهم التي كانوا فيها.
ويجب الالتفات اكيداً الى ان حسن الظن يجب ان يكون تأثيره ايجابياً بمعنى زرع الأمل والاندفاع في العمل وتجاوز الإحباط واليأس، وليس سلبياً بأن يكون سبباً للتمادي في العصيان والوقوع في السيئات نعوذ بالله تعالى.
بهذه المعاني نحبّب الله تعالى الى الناس حتى يتعلقوا به تبارك وتعالى وهذا من أحبّ الاعمال الى الله تعالى، وان اثارة هذه المعاني تدعونا الى الاتصاف بها والعمل بموجبها تأسياً بالله تعالى (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) (النحل:60) وآخذ بسنة رسول الله (’) (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
خصوصاً نحن الحوزة العلمية وأتباع أهل البيت (^)، بأن نتحلى بكرم الاخلاق وسمو النفس حتى مع الخصم المتعدي نعّلمه ما يحتج به علينا ويعتذر به الينا ولاينال ذلك الا بلطف الله تعالى وفضله.
([1]) من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الفضلاء وطلبة الحوزة العلمية يوم 15/ج2/1438 الموافق 14/3/2017
([2]) سيأتي خطاب مفصل في تفسير هذه الآية إن شاء الله تعالى.
([3]) مفاتيح الجنان.
([4]) من دعاء الامام الحسين (×) يوم عرفة.
([5]) الامالي للصدوق: 302/ح 342.