خطاب المرحلة (513) مسؤوليتنا عن رعاية عوائل الشهداء وايتامهم
مسؤوليتنا عن رعاية عوائل الشهداء وايتامهم([1])
نقل ابن شهر اشوب في كتابه (مناقب آل أبي طالب) رواية نذكرها ونمزج معها بعض الشرح للإيضاح، قال (نظر علي (×) الى امرأة على كتفها قربة ماء) فكأنه استصعب هذه الحالة وان غيرته لم تسمح بأن يرى امرأة ضعيفة تحمل ثقلاً، (فاخذ منها القربة فحملها الى موضعها، وسألها عن حالها) أي سبب تصدّيها لهذا العمل، الا يوجد عندها رجل ليقوم بهذا العمل (فقالت: بعث علي ابن أبي طالب صاحبي - أي زوجي- الى بعض الثغور) أي بعض مناطق القتال والجهاد (فقتل، وترك عليَّ صبيانا يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة الى خدمة الناس) والتكسب بهذا العمل لإعالة نفسها واليتامى. (فأنصرف × وبات ليلته قلقاً) لوجود مثل هذه الحالة في رعيته وهو المسؤول الأعلى عنهم وبأمره حصل ما حصل وإن كان هو الحق بعينه (فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام) وهو رئيس دولة مترامية الأطراف وأمير المؤمنين (فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة؟) وليس في صحيفة علي (×) أي وزر لأنه من أهل البيت (^) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وهو × مع الحق والحق معه ولكنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن هذا الواقع ويّحب ان يعتذر الى ربه بهذا التواضع وحمل المواد الغذائية وهو شيخ تجاوز الستين من العمر قد أثقلته الهموم والمصائب (فأتى وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد) لله تعالى وهي اشرف الاوصاف (الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان) ففتحت الباب وهي لا تشك أنه عبد مملوك لانها لا تتصور أن سيداً وجيهاً يمكن ان يقوم بهذا الفعل فضلاً عن كونه أمير المؤمنين وهي لا تعرفه (فقالت: رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب. فدخل وقال: إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين ان تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان - أي تلعبينهم وتلهيهم – لأخبز أنا، فقالت: انا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز. قال: فعمدت الى الدقيق فعجنته، وعمد علي (×) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما أمر في أمرك) فهو × يطلب منهم براءة الذمة مما سبب لهم (فلما اختمر العجين فقالت: يا عبد الله أسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الأرامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت - لأم الايتام – ويحكِ هذا أمير المؤمنين، فقال: فبادرت المرأة وهـي تقــول: واحيائــي منــك يا أميــر المؤمنين، فقال: بل واحيائي منكِ يا أمة الله فيما قصّرتُ في أمركِ.)([2])
وبقي هاجس وجود الأرامل والايتام وشعوره بمسؤولية رعايتهم والشفقة عليهم واللوعة مما حلَّ بهم يؤرق علياً الى آخر حياته فكان في وصيته عند استشهاده لولديه الحسنين (عليهما السلام) (الله الله في الايتام فلا تغبًوا افواههم ولا يضيعوا بحضرتكم)([3]).
وواصل الامام الحسن (×) تحمّل هذه المسؤولية من بعد أبيه وكان من شروطه على معاوية أن يوفر له مبلغاً ضخماً حدده له كل عام ليكفل به عوائل الشهداء مع أبيه أمير المؤمنين (×).
ثم ورثت العقيلة زينب (÷) هذا الشعور النبيل فبالرغم من عظم المصاب الذي حلّ بها من قتل أخيها الامام الحسين (×) وبقية اخوتها واحبّتها وويلات السبي والأسر وشماتة الاعداء وقطع المسافات الطويلة، الا ان كل ذلك لم يشغلها عن مسؤوليتها الجسيمة في رعاية عوائل الشهداء وحفظ الايتام ومداراتهم، وقد تجاوز عددهم الثمانين، وهذا المعنى ضمّنه المرحوم السيد رضا الهندي في قوله:
لم تلهو عن جمع العيال وحفظهم |
|
بفراق اخوتها وفقد بنيها |
من هذه الذكرى المشتركة لأمير المؤمنين وابنته العقيلة زينب (عليهما السلام) نريد أن نثير الانتباه الى هذه القضية الخطيرة فقد كثرت في مجتمعاتنا الأرامل والايتام وعوائل الشهداء بسبب الارهاب وظلم الطواغيت ومؤامرات المستكبرين وقد تصدى أبناؤنا لكل هؤلاء الأعداء فضحّوا بأرواحهم من أجل حفظ كرامتنا وعزتنا ومقدساتنا ((والجود بالنفسِ اقصى غاية الجود)) الا انهم خلّفوا أعزة مفجوعين بحاجة الى الرعاية، فعلينا جميعاً ان نتأسى بأمير المؤمنين (×) ونستشعر كلماته وزفراته وانّاته في الرواية المتقدمة ونتصدى لهذه المسؤولية.
ولا يكفي ان نواسي ذوي الشهيد بالمصاب ونقف معهم في المناسبة ونقدّم له دعماً مالياً ومعنوياً بل علينا مواصلة هذه الرعاية من جميع الجهات الى ان يبلغ الايتام سن الرشد ويستقلوا بأنفسهم فنتابع سيرتهم واخلاقهم ونحل مشاكلهم ونسعى بقضاء حوائجهم ونثقفهم ونعلمهم ونجعلهم من المتفوقين على اقرانهم، ففي الروايات أن أصحاب أمير المؤمنين كانوا يتمنون ان يكونوا أيتاماً ليحظوا بما حظي به هؤلاء الايتام من رعايته الكريمة.
ولا شك ان هذا عمل ضخم واسع يحتاج الى انشاء مؤسسات تقوم به في جميع المدن ولا تكفي فيه الجهود الفردية، وان المسؤولية تتعاظم على الشخص كلما ازداد موقعه نفوذاً وتأثيراً سواء على المستوى الديني او السياسي او الاجتماعي.
يروي([4]) العالم الجليل السيد هبة الدين الشهرستاني الذي كان ملازماً للمرحوم الشيخ محمد تقي الشيرازي وهو المرجع صاحب الفتوى التي أعطت الضوء الأخضر لجهاد الإنكليز في ثورة العشرين وكان مقره في كربلاء ويقيم صلاة الجماعة في الحرم الحسيني الشريف، وفي احد الايام خرج الى الصلاة كعادته فرأى عدة نعوش يطاف بها فسأل عنها فقيل له انهم شهداء في الجهاد، فلما سمع ذلك اعتراه همّ شديد وقلق ولم يخرج الى الصلاة ثم سقط مريضاً في الفراش وتدهورت صحته سريعاً حتى مات (رضوان الله تعالى عليه) لأنه أحس بنفس آلام أمير المؤمنين وقلقه المذكور في الرواية المتقدمة.
إن هؤلاء الايتام اذا لم نحسن رعايتهم وتربيتهم وتعويضهم فانهم سيمتلئون احتقاناً ونقّمة على المجتمع ويكونون قنبلة موقوته يمكن تفجيرها في أي وقت ويصبحون لقمة سائغة للإرهابين والمنافقين والاعداء ليجنّدونهم في عصابات تحرق الأخضر واليابس.
فلنستشعر هذه المسؤولية الدينية والأخلاقية والوطنية والاجتماعية والله المستعان.
([1]) من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يوم 11/رجب/1438 الموافق 9/4/2017 مع حشد المواكب الزينبية التي تحيي ذكرى وفاة العقيلة زينب (÷) وزيارة النصف من رجب عند الامام الحسين(×) وتجتمع في النجف الاشرف وتنطلق مشياً على الاقدام الى كربلاء.
([2]) بحار الانوار:41/52 عن مناقب آل أبي طالب: 2/114 فصل في حلمه وشفقته
([3]) بحار الانوار: 75/13
([4]) تجارب العلماء في عصر الغيبة، ترجمة واعداد كمال السيد: 2/390