خطبتا صلاة عيد الاضحى المبارك 1438
بسمه تعالى
خطبتا صلاة عيد الاضحى المبارك 1438
السبت 10-ذ ح-1438هـ
الموافق 2-9-2017م
اقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الاضحى المبارك بمكتبه في النجف الاشرف
والقى سماحته (دام ظله) خطبتي صلاة العيد في جموع المؤمنين المصلين .
الخطبة الاولى قوله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ- سنة الاستدراج)
اما في الخطبة الثانية قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ - افهم حقائق الأمور جيداً: البر والعلم والعبادة أمثلة)
وبعد انتهاءه من القاء الخطبتين استقبل سماحته التهاني من جموع المؤمنين والمريدين .
وفيما يلي النص الكامل للخطبتين :
الخطبة الاولى
بسمه تعالى
(سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (القلم:44)( الأعراف : 182)
سنة الاستدراج
من سنن الله تعالى الجارية في عباده سنة (الاستدراج) وهي من الابتلاءات العظيمة التي يمر بها الفرد والمجتمع، عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال ( ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له)([1]) وقد ذكرها القرآن الكريم صريحاً في موضعين هما (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (القلم:44)( الأعراف:182) لكن مضمونها ورد في آيات عديدة أخرى كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
والاستدراج يعني اخذ الكافرين والمنافقين والايقاع بهم تدريجياً درجة بعد درجة من حيث لا يعلمون فكلما ازدادوا في المعاصي ازدادت عليهم النعم وهكذا حتى تنتهي مهلتهم و يتفاجاؤا بالعذاب الذي يستحقونه وقد أحاط بهم وهم في ذروة سكر النعم واقبال الدنيا وورد عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال (هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه، تلّهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب)([2]).
والذي يوقعهم في هذا الاستدراج ما ذكرته الآية التالية (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف:183) أي اغترارهم بالإمهال والاملاء وعدم التعجيل بالعقوبة على الذنوب (وَأُمْلِي لَهُمْ) الذي هو رحمة وشفقة وإعطاء مزيد من الفرص للتوبة وليس عجزاً أو ضعفاً لأن الاستعجال ديدن من يخاف الفوت فيتوهمون أنهم على خير ولم يصدر معهم شيء سيء وإنهم يستحقون من الله تعالى إغداق النعم كقول قارون لما نصحه قومه بالإحسان كما أحسن الله تعالى إليه وعدم البغي والفساد في الأرض (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص:78).
فيتملكهم الغرور وتستولي عليهم الغفلة حتى ينتهوا إلى سوء المصير، قال تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (آل عمران:178).
وسنة الاستدراج تأتي بعد الموعظة والتذكير والانذار والتحذير والتعريض لبعض الابتلاءات لعله يصحو من غفلته وينتبه إلى نفسه فاذا استمر بعصيانه وتمرده تواترت عليه النعم فينسى ربه وينسى نفسه (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر:19) .
ومن الآيات الكريمة التي اشارت إلى هذه المراتب قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (الأعراف:94-95) وفي كتاب الكافي عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (ان الله اذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، واذا أراد بعبد شراً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) بالنعم عند المعاصي)[3].
في الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) قال ( إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمه فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج)[4].
لذا يجب على الانسان العاقل أن يكون حذراً عندما تقبل النعم عليه قال امير المؤمنين (عليه السلام) (أولى الناس بالحذر اسُلمُهم عن الغيَر)[5] وعنه (عليه السلام) ( اذا رأيت ربَّك يتابع عليك النعم فاحذره ) [6]فلا تبطره ولا يشعر بالعجب والزهو وان يتعاهد نفسه بالمحاسبة دائماً ولا يغفل عن أداء حق الله تعالى عليه في هذه النعم، فنعمة الايمان عليها حقوق ونعمة العقل عليها حقوق، ونعمة الصحة والعافية عليها حقوق، ونعمة المال عليها حقوق، ونعمة الجاه والوالدين والأولاد والعلم وغيرها فيها حقوق لله تعالى ((راجع رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) لتعرف تفصيلاً عن هذه الحقوق)).
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في نهج البلاغة (أنه من وسع عليه في ذات يده فلم يَر ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً)[7].
ومن كلماته (عليه السلام) (كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما أبتلى الله أحداً بمثل الاملاء له)[8].
وعن الامام الحسين (عليه السلام) قال (الاستدراج من الله سبحانه أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر)[9].
وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال (كم من مغرورٍ بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه)[10].
وكان أصحاب الائمة (عليهم السلام) واعين لهذه الحالة وحذرين منها فروي أن أحد أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) قال (إني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالاً فرزقني، وإني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً؟ فقال (عليه السلام): (أما مع الحمد فلا)[11] والمقصود بالحمد العملي منه وليس فقط القولي، ( أقل ما يلزمك لله تعالى ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه )[12]
هذا هو المعنى المعروف للاستدراج، ويستشف من القران الكريم معنى آخر له، بأن يكون الاستدراج على شكل تزيين المعصية وتيسيرها بحيث تضعف مقاومة النفس عن تجنبها كما يحكي القرآن عن أصحاب السبت من اليهود، حيث حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت تأتي بكثرة يوم السبت وتكون في متناول أيديهم ولا يجدونها في غير السبت، فعملوا حيلة لحجزها يوم السبت ثم اصطيادها يوم الاحد فقال تعالى (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:163). فمسخوا قردة وخنازير[13] .
ومثل الصيد الذي حرمه الله تعالى على المحرم واذا به يكثر حولهم وهم محرمون ليبتلي صبرهم على الالتزام بالحكم الشرعي للمحرم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:94).
فالمستفاد من الآية عدة دروس:
1- عدم الاغترار بالنعم والأمن من العقوبة لأن ذلك امهالاً وليس اهمالاً وأن العاقبة السيئة قد تحل به في أي لحظة في الدنيا والآخرة، مثلا الزعماء السياسيون عليهم أن لا تغرّهم الرئاسة والقدرة وكثرة الاتباع وضجيجهم وتداول وسائل الاعلام فتتضخم الانا عند احدهم ويتصور أنه قادر على كل شيء وأنه بمتناول يده أن يفعل ما يشاء فيتخلى عن مبادئه وينسى واجباته تجاه شعبه وبلده وينحرف مبتعداً عن جادة الصواب ويصمّ اذنه عن سماع النصيحة ويغفل عن قدرة الله عليه، او أصحاب الأموال يرون أموالهم تتكاثر بسرعة وتأتيهم من حيث لا يحتسبون، فيغتروا بها ويغضوا الطرف عن مصادرها وإخراج الحقوق الشرعية منها ويبقون في هذا الوهم حتى تذهب لذتها وتبقى تبعتها .
2- أن لا ننساق وراء شهوات النفس واطماعها فنسقط في المعصية مهما بدت لذيذة وسهلة ومغرية وفي متناول اليد كالأموال الطائلة التي يبذلها الفاسدون من أجل تمرير باطلهم أو السكوت عنه، فيغتر بها ضعاف النفوس ويسقطون في فخوخهم أو كالعلاقات الجنسية التي تبذل بيسر للشباب في المجتمعات المختلطة أو على وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة أو أي مجال آخر، فالحذر من كل ذلك لأن القدم اذا زلَّت فأن الانحراف يزداد بمرور الوقت وتصعب العودة إلى جادة الصواب.
3- الثقة بوعد الله تعالى وأنه لا يضيّع أجر المحسنين ولا يسكت عن ظلم او جور وأنه ينصر عباده المؤمنين ولكننا لا نستطيع توقيت ذلك وما يفعله الله تعالى هو الخير.
4- أن نعي هذه السنة الإلهية (الاستدراج ) حتى لا يتحول الاغترار بها إلى ظاهرة خطيرة حينما ينخدع المجتمع ببعض المظاهر الجذابة المبهرة التي يتنعم بها المستدرجون فيتمنى أن يكون مثلهم ولا يعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم كما ابتلي الكثير من أبناء المجتمع اليوم بهوس السلطة والصراع على المغانم ونيل الثراء الفاحش بسرعة، قال تعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:196-197)
ويحكي القرآن الكريم حادثة قارون من بني إسرائيل للتحذير من هذه الظاهرة الخطيرة حيث آتاه الله تعالى أموالا عظيمة (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) فنصحه قومه فلم يستجب وهنا ترد الإشارة الى هذه الظاهرة (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:76-83)، فلنحذر من السقوط في مقولة (ياليت لنا مثل ما اوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) لان عاقبته الندم الكبير حيث لا ينفع الندم .
ويقدّم السيد الطباطبائي (قدس) تحليلاً لاستدراج هؤلاء ووقوعهم في العذاب الدنيوي قبل الآخرة، قال (قدس) ((ومن وجه آخر لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم وكذبوا بآياته سُلبِوا اطمئنان القلوب وأمنها للتشبث بذيل الأسباب التي من دون الله، وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الأسباب وتراكم النوائب، وهم يظنون انها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذاباً وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة وهو أمر وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون))[14].
الخطبة الثانية :
بسمه تعالى
(لَّيْسَ الْبِرَّ[15] أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ) (البقرة:177)
افهم حقائق الأمور جيداً: البر والعلم والعبادة أمثلة
من ثمرات التدبر في القرآن الكريم تصحيح نظرتك للأمور وفهمك للحقائق، وهذه الآية تقوم بهذا الدور وتبيّن مفردة مهمة في الحياة أعني (البر) الذي يعرّف بأنه ((الاتساع والزيادة في فعل الخير)) ولذا سميت الصحراء بالبرية لاتساعها، وفي الحقيقة فأن الآية شرحت معنى الايمان المتكامل نظرياً وعملياً وإن عبّرت عنه بالبر، وفي كتاب الدر المنثور بسنده عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الايمان فتلا عليه الآية فأعاد السؤال فتلاها ثانية وهكذا ثالثة.
وقد ورد في الروايات أن الآية نزلت للتعريض بفعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يسخرون من المسلمين عندما أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحويل القبلة عند الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشّرفة وأصبح للمسلمين هوية خاصة بعد أن كان أولئك يفتخرون عليهم وانهم تابعون لهم لأنهم يصلّون إلى قبلتهم وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوق الى ان تكون الصلاة الى الكعبة بعد هجرة الى المدينة ({قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة : 144] فأفقدهم تغيير القبلة هذا الادعاء فأخذوا يشككون في صحة فعل المسلمين سابقاً أو لاحقاً، وكانت هذه حلقة من سلسلة طويلة من المواجهة مع أعداء الإسلام، وقد نزلت عدة آيات للرد عليهم، منها قوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ المشرق والمغرب ) (البقرة:142) ومنها الآية التي نحن بصددها.
فالآية تقول: أن البر ليس أمراً شكلياً وحركة جسدية تتمظهر بالتوجه إلى هذه الجهة أو تلك فقط وفقط حتى يركّز عليها الخصوم ويعتبرونها المقياس لمعرفة الحق بينما القلوب خاوية من الايمان الحقيقي، والنفوس مجرّدة من الورع والتقوى، ولكن البر له حقيقة وراء هذه الشكليات تتكون من منظومة متكاملة من الاعتقادات والأخلاق و الأفعال (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) .
هكذا يجب ان نقيُم عباداتنا وسائر أعمالنا على أساس حقائقها واغراضها وليس اشكالها وحركاتها البدنية حتى لا يتملك العجب أحداً من العاملين أو الشعور بأنه قدَّم شيئاً يستحق عليه جزاءاً عظيماً ولنأخذ أمثلة من الواقع كشخص يحيي الليل بالعبادة وهو لا يعلم بأن الحارس الليلي يجوب الشوارع على قدميه في ظل الظروف الجوية القاسية متحملاً المخاطر والتهديدات والمسؤولية الكبيرة ويتقاضى أجره عن الليلة عشرة الاف دينار أو أكثر بقليل أي عشر دولارات فكم يستحق التعب الجسدي لإحياء الليل بالعبادة، أو نقيس الامر على الاستئجار للعبادات فأن أجرة صلاة يوم كامل دولاراً واحداً او اكثر بقليل وصوم اليوم الواحد عشرة الاف دينار أي ثمانية دولارات ونحن نريد بهذه الاعمال أن يدخلنا الله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض، فلابد أن نعرف حقيقة ما يريده الله تعالى من هذه الاعمال وهي التقوى والورع وان تحب الله تعالى وتؤثر رضا الله تعالى على ما سواه وأن تحب خلق الله تعالى وتحسن عليهم بما يتيسر وتتجنب ظلمهم مطلقا، قال الله تعالى (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج:37) فالقيمة الحقيقية ليست الاشكال والظاهر وانما الروح والمضمون .
والملفت في الآية التي نحن بصددها أنها انتقلت من وصف البِّر ــ المصدر ــ إلى وصف البَّر ــ بالفتح ــ أو البارَّ وهو المتصف بهذه الصفات لأن النظرية لا تفهم الا من خلال تجسيدها عملياً وابرازها في سلوك الأسوة الحسنة، ولتشير إلى أن من اجتمعت فيه هذه العناصر يْكون البر صفة راسخة فيه حتى يصبح مجسداً للبِّر على ارض الواقع كما نقول (علي عدل) أي ان العدل ملكة راسخة فيه حتى أصبح مثالاً و مصداقاً للعدل.
والصفات المذكورة واضحة ومحورها العبودية لله تبارك وتعالى وعدم التعلق بشيء سواه، وقد ذكر إنفاق المال مرتين (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي على حب المال وعلى حب الله تعالى، (وَآتَى الزَّكَاةَ) وكأنه للإشارة إلى قيامه بالانفاقين الواجب والمستحب، والخطاب وإن نزل للتعريض بأهل الكتاب الا أنه شامل للجميع كما هو ديدن القرآن الكريم.
فهذه هي صفات الأمة المؤمنة حقيقة التي هي خير أمة أخرجت للناس ولها مقام الشهادة على الأمم الأخرى (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) وليس بمجرد إدعاء الانتساب.
وفي الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (أما علامة الباِّر فعشرة: يحب في الله، ويبغض في الله ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه ويخشع لله، خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحياً مراقباً، ويُحسِنُ في الله)[16].
ومحل الشاهد هنا أن من الوظائف التي اداها القرآن الكريم وضع المعايير الصحيحة وتصحيح فهم الأمور وسار على ذلك النبي والائمة المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، روي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله: ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل)[17].
إذن فالعلم الذي يستحق أن يسمى علماً هو ما كان فيه نفع للناس في دنياهم أو آخرتهم وتقوم به حياتهم بحيث لو تركه الناس يصيبهم ضرر بفواته، أما ما ليس كذلك كأنساب العرب ووقائعهم في الجاهلية فلا يستحق تضييع الوقت الثمين في تعلمه، فلابد أن نراعي ذلك فيما نطالعه ونتعلمه عبر وسائل التثقيف المتنوعة التي لم تقتصر على الكتب والصحف والمجلات، بل تعدّتها إلى شبكة النت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ومن ذلك ما رواه معلى بن خنيس قال (سأل أبو عبدالله عليه السلام عن رجل وأنا عنده فقيل: أصابته الحاجة، قال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبدالله عليه السلام: والله للذي يقوته أشد عبادة منه)[18].
فالرواية تصحح لنا فهمنا لعنوان مهم آخر وهي (العبادة) التي نظن أنها بكثرة الصلاة والصيام وكلما ازداد منها كان أعبد الناس واذا بمفهومها أوسع من ذلك، فكل عمل يساهم في إعمار الحياة وإسعاد الناس وإصلاحهم وتوفير الحياة الكريمة لهم هو من أسمى اشكال العبادة.
[1] ) نهج البلاغة: قصار الكلمات: 116
[2] - الكافي: 2/452 ح 3
[3] - نور الثقلين: 5/397 عن كتاب علل الشرائع
[4] - مجمع البيان: 10/340
[5] - غرر الحكم : رقم 3096
[6] - غرر الحكم : رقم 4082
[7] - نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 358، بحار الانوار: 5/220
[8] - نهج البلاغة: الحكمة 116
[9] - بحار الانوار: 78/117 ح 7
[10] - الكافي: 2/452 ح 4
[11] - أصول الكافي: 2/97 ح 17
[12] - كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غرر الحكم : رقم 3330
[13] ) في تفسير العسكري: عن الامام علي بن الحسين (عليه السلام ) قال : (ان الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله (صلى الله عليه واله) وهتك حريمه، ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا فان المعدَّ لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف هذا المسخ) (تفسير البرهان : 4/129)
[14] - الميزان في تفسير القرآن: 8/351 تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.
[15] - مثبّتة بالفتح في المصحف المتداول وهي قراءة حمزة وحفص عن عاصم وحكي في وجهها انه خبر ليس مقدم على إسمها، قال في مجمع البحرين ((وهو ضعيف بجعل الاسم جملة)) وقرأها الأكثر بالضمّ على القاعدة مثل نافع وابن كثير وابي عمر و ابن عامر والكسائي وغيرهم وهو المروي عن ابن مسعود وابي (راجع معجم القراءات القرآنية: 1/ 137).
[16] - تحف العقول:21
[17] - الكافي: ج 1 / كتاب فضل العلم / باب صفة العلم.
[18] - وسائل الشيعة: ج 12/ ح 3/ ص 14