خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1436
بسم الله الرحمن الرحيم
السبت 1-شوال-1436هـ
الموافق 18-7-2015م
خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1436
اقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك بمكتبه في النجف الاشرف.
و القى سماحته (دام ظله) خطبتي صلاة العيد في جموع المؤمنين المصلين .
وكانت الخطبة الاولى بعنوان (امور يكرهها المعصومون (عليهم السلام) يجب اجتنابها )
اما في الخطبة الثانية فكانت بعنوان (اَللّـهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ)
وبعد انتهاءه من القاء الخطبتين استقبل سماحة التهاني من جموع المؤمنين والمريدين .
وفيما يلي النص الكامل للخطبتين :
الخطبة الاولى :
بسمه تعالى
امور يكرهها المعصومون (عليهم السلام) يجب اجتنابها
وسائل التربية والتعليم للإنسان كثيرة بعضها معروفة وملتفت اليها كالتلقّي المباشر من المعلّم والمربّي، وبعضها غير معروفة ولا يُلتفت إليها:
(منها) الإحسان في العمل والى الآخرين، قال تعالى عن يوسف الصديق (عليه السلام) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف22) وقال تعالى عن النبي موسى (عليه السلام) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (القصص14) فإيتاء العلم –سواء الفقه في الدين أو تأويل الرؤيا -والحكم- أي الحكمة أو الحكومة- كان جزاء لإحسانهم بأي نحوٍ كان في التعامل مع الآخرين كإحسان العمل واتقانه أو الاحسان الى الوالدين او الجيران او الاهل او عموم الناس، بل حتى الحيوان كما في قصةٍ رويتها سابقاً عن طالب العلم الذي أرضع قططاً صغيرة ماتت اُمّهنّ بعد الولادة.
(ومنها) التقوى، قال تعال (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (البقرة282)، وقال تعالى (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ) (الأنفال29) والفرقان: نور البصيرة الذي يقذفه الله تعالى في قلب المتقي جزاء لتقواه ليميّز بين الحقِّ والباطل.
ومثل هذه المصادر للعلوم والمعارف والتجارب الانسانية يجهلها العلماء الماديون الذين يستقون علومهم من التجارب والطرق الطبيعية، فعلى المهتمين بالتنمية البشرية الالتفات الى هذه المصادر وغيرها كزيادة العلم من خلال العمل به[1]
(ومنها) ما روي عن لقمان الحكيم فانه سُئِلَ (ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من العميان لأنهم لا يضعون أقدامهم في محل حتى يختبروه) [2] (وقيل للقمان: ممن تعلمت الادب؟ فقال: ممن لا أدب لهم فاجتنبت كل ما استهجنتُه منهم)[3].
ومن طرق التربية وتهذيب النفس الالتفات الى الامور التي عبّر القادة المعصومون (عليهم السلام) عن كراهيتهم لوجودها وصدورها من شيعتهم او عموم الناس وكانوا يتألمون منها فعلينا كأتباع مطيعين لهم أن نلتفت اليها ونعالجها بعد أن سهّلوا علينا، بذكرها مرحلة التشخيص، وتُعرف هذه الامور من استقراء الروايات الشريفة وقد سجلت جملة منها اثناء مطالعاتي:
1- شكوى الثلاثة: القرآن والمسجد والعالم، روى في الخصال عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (ثلاثة يشكون الى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه اهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه غبار لا يُقرأ فيه)[4]، فشكوى القران التي ورد فيها قوله تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان30) وهجر القران لا يقتصر على ترك قراءته بل من الهجر ترك العمل بآياته ومضامين الرجوع اليه في كل الامور، مثلاً القرآن يقول (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء65) بينما تجعل العشائر سنناً وفرائض ما انزل الله بها من سلطان تتحاكم اليها، ويقول تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة44) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة45) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة47) ويقف من ينتسب الى القران مانعاً من تطبيق أحكامه كما حصل عند تقديم مشروع المحكمة الشرعية والقانون الشرعي للأحوال الشخصية (الجعفري)، مع إنه قانون يتعلق بالامور الخاصة لكل إنسان وله الحق في أن يُجريها على ما يعتقد.
وقد شرحنا هذه الشكاوى الثلاث في كتاب مفصل اسمه (ثلاثة يشكون)
2- قلة التفقّه في الدين، والدين لا يستقيم بلا معرفة والتي تأتي من خلال المطالعة والاستماع والمتابعة، روي في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا)[5] وقال (عليه السلام) (عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)[6] ونقل الامام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: (افّ لرجل –وفي رواية اخرى: لكل مسلم- لا يفرّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)[7].
3- عدم الاعتناء بأمر صلاتهم سواء على مستوى المحافظة على أوقاتها أو الالتزام بحدودها وشروطها وأحكامها التفصيلية من الإبتداء بالطهور الى نهايتها، أو على مستوى الإقبال فيها و التدبر في معانيها، أو على مستوى تحقيق الغرض المرجو منها، روى حماد ابن عيسى[8] قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً: تُحْسِنُ أن تصلي يا حماد؟... قُم فصلِّ، قال: فقمت بين يديه متوجها الى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت، فقال: يا حماد لا تُحسن أن تصلي؟ ما أقبح بالرجل أن تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة)[9].
4- قول الإمام الصادق (عليه السلام): (وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النَزَقْ وقلّة الكتمان)[10].
تصوروا ألم الإمام وانزعاجه بحيث يتمنى لو قُطِّعَ جزء من جسده الشريف ليخلص شيعته من النزق أي الخفّة والطيش والتعجّل في الامور وعدم التصرف بحكمة وروية، ومن قلة الكتمان أي عدم المحافظة على الأسرار والمواقف المتعلقة بقضايا العقيدة أو فضائل اهل البيت (عليهم السلام) أو مثالب اعدائهم أو تقييم الاشخاص والموقف من السلطة والاحداث الجارية التي قد يبينها الإمام (عليه السلام) لأحدهم خاصة ويحذّره من البوح بها لان أغلب الناس لا تستوعبها مثلاً أو لأنها تستفز الخصوم وتدفعهم الى الإضرار بشيعة الإمام (عليه السلام) أو أن في بيانها تضييقاً على الامة والإمام (عليه السلام) يريد التوسعة عليهم إشفاقاً بهم، لكن البعض لا يصبر على كتمان الأمر فيذيعه ويقع المحذور.
وأعتقد أن هذا هو أحد اسباب وجود التعارض في روايات أهل البيت (عليهم السلام) لأن القضية تتطلب أحياناً أن يكون هناك موقف عام معلن وآخر غير معلن يقوله الإمام (عليه السلام) للخواص ليحفظوه منعاً من اندراسه فإذا اذيع الثاني كان معارضاً للأول ويختلط الأمر على المتلقين.
5- قلّة الأنصار المضحّين المطيعين لأمر الإمام والملتزمين بتوجيهاته بدقة وأن كان عدد الموالين والمريدين كثير، لكنهم عند الغربلة والإمتحان قليلون،روي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)[11] روى سدير الصيرفي قال: (عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) فَقُلْتُ لَهُ وَالله مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ؟ فَقَالَ: وَلِمَ يَا سَدِير؟ُ قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَشِيعَتِكَ وَأَنْصَارِكَ وَالله لَوْ كَانَ لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيهِ السَّلام) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَالأنْصَارِ وَالْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيهِ تَيْمٌ وَلا عَدِيٌّ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ وَكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا؟ قُلْتُ: مِائَةَ أَلْفٍ قَالَ: مِائَةَ أَلْفٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: مِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَنِصْفَ الدُّنْيَا قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قَالَ يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ قُلْتُ نَعَمْ فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وَبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَ تَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالْحِمَارِ قُلْتُ: الْبَغْلُ أَزْيَنُ وَأَنْبَلُ قَالَ: الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ وَرَكِبْتُ الْبَغْلَ فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ فِيهَا فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ وَنَظَرَ إِلَى غُلامٍ يَرْعَى جِدَاءً فَقَالَ: وَالله يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ وَنَزَلْنَا وَصَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ) [12].
6- تصديق المدّعين للعناوين الدينية الكبيرة من غير تثبت وتحقيق في صحة هذه الدعاوى ومن دون عرضها على الموازين الشرعية فيقودهم هؤلاء المدّعون الى الضلال والانحراف ويستخدمونهم لتحقيق مآربهم في الزعامة وتحصيل الإمتيازات، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (وانه ليس من احد يدعو الى ان يخرج الدجال الا سيجد من يبايعه، ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت)[13] أي جهل وتخلف وحماقة وانعدام الورع لدى الناس بحيث ان صاحب كل دعوة حتى لو كانت يقينية البطلان يحصل على أتباع ومؤيدين ينشرون دعوته وينصرونه
7- التنازع والتقاطع بين الأتباع، ورد في رسالة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) الى الشيخ المفيد قوله: (لو أنّ أشياعَنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم اليُمنُ بلقائِنا ، ولتعَجّلَت لهمُ السعادة بمشاهدتنا)[14].
8- قول امير المؤمنين (عليه السلام): (قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك)[15] وقد تناولت في خطاب سابق[16] الاثار التدميرية لهذين الخطين الخطيرين في المجتمع خطّ النفاق والرياء وطلب الدنيا بالدين وخطّ التقدّس المتحجّر غير الواعي.
الخطبة الثانية:
بسمه تعالى
اَللّـهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ
من الأدعية المستحبة في كل يوم من شهر رمضان دعاء (اللهم أدخل على أهل القبور السرور) ويتضمن عدة فقرات جليلة، أحببت التوقف عند أحدها وهي (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)، ومن الواضح أن إصلاح الفساد لا يتحقق بمجرد ترديد هذه الكلمات وان كان في نفس قراءة الادعية ثواب وان الدعاء مخّ العبادة كما في بعض الاحاديث، لكن بعض المطالب تحتاج الى سعي كمن يريد الرزق الحلال لا يكفيه أن يردد: (اللهم ارزقني) بل عليه أن يسعى في مناكبها ويبتغي من فضل الله تعالى، ومن يريد الذرية الصالحة عليه أن يتخذ زوجة صالحة، وهكذا، الا اذا شاء الله شيئا بدون ذلك كولادة عيسى (عليه السلام) من غير أب.
فإصلاح الفساد في أحوال المسلمين وهكذا فقرات الأدعية لا بد لكل منها من سعي يناسبها [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19)، فكيف نصلح أحوال المسلمين الفاسدة التي لا تسرّ الصديق ويشفق لها العدو، ولم تبق حرمة إلا انتهكت، وماذا علينا أن نفعل لتحقيق هذا الغرض؟.
يجيب عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث رواه عنه الشيخ الصدوق في الخصال يحدد فيه سبب فساد أحوال المسلمين وصلاحهم، قال فيه: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صلى الله عليه وآله): الفقهاء والأمراء)([17]).
فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح؛ لذا قيل: (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون الى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الامة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (عليه السلام) انه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه: (أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرّوا ، فقالوا : أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل : فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا)[18] مشيراً الى الآية الكريمة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (الحجرات9).
كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الامة.
ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر او الجهل او التخلف او العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش3-4).
ومحل الشاهد أن صلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما.
أما الصنف الأول فقد بيّنَتْ الروايات أن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فانهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة اهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب انانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة63 ) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وما عليهم، روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن امير المؤمنين (عليه السلام) قوله من حديث (اعرفوا.. اولي الامر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان)[19] فاذا تخلى العلماء عن مسؤولياتهم اصبحت الامة خاوية روحياً وميته معنوياً وفاقدة البصيرة والرشد يتلاعب بها الاشرار، وتوجد شواهد كثيرة من التاريخ لفساد تسبّب فيه العلماء، فالإمام الحسين (عليه السلام) قتل بفتوى شريح القاضي الذي افتى بجواز محاربة الامام (عليه السلام) لانه خرج على ولي الامر، والامام الجواد (عليه السلام) قتل بتحريض من قاضي قضاة الدولة العباسية ابن ابي داوود للمعتصم بعد اخذه برأي الامام (عليه السلام) في قطع يد السارق.
أما الصنف الثاني، فمما لا يحتاج إلى بيان دور الزعامات السياسية في فساد البلاد من خلال الاستئثار بالمال العام واعتبار ما يقع تحت يده غنيمة، وهدره في امور عبثية ومشاريع وهمية وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وسوء التخطيط والإدارة بالاعتماد على ناس غير مؤهلين وانشغال البلاد والعباد بصراعاتهم السياسية، وإن كل الكوارث التي حلت بالبلاد هي نتيجة هذه الصراعات على المغانم والامتيازات حتى وإن ألبست بعناوين دينية أحياناً.
وهؤلاء الحكام لم يصلوا إلى مواقعهم إلا بدعم وتأييد جمع من الناس سواء من خلال الإدلاء بأصواتهم لهم في الانتخابات أو بنصرتهم وتمكينهم من السلطة في الانقلابات العسكرية وإدامة حكمهم وسلطتهم، او بأي نحو وصلوا به الى السلطة ولو تخلّى الناس عنهم والتفوا حول الصالحين الأكفاء لما وصل حال المسلمين إلى هذه الدرجة التعيسة، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)([20]).
فهذه هي المسؤولية المباشرة المنظورة التي يتحملها الناس إزاء هذا السبب من الصلاح والفساد، لكن الروايات دلّت على ان بعض الذنوب والتقصيرات هي العلل الحقيقية لتسلّط الأشرار والفاسدين والظالمين، فنبّهنا المعصومون (عليهم السلام) لها حتى نمنع أصل تسلّطهم وتسلّمهم الحكم، ولا نصل إلى مرحلة تمكنهم من الحكم والسلطة ثم نفكّر في كيفية إصلاح الحال، أي أن الإصلاح يكون على طريقة (الوقاية خير من العلاج)، وازالة الاسباب من أصلها
ومن تلك الذنوب والتقصيرات المسبّبة لتسلط الاشرار والفاسدين:-
1- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)([21]).
وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).
2- عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء: الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(3).
3- إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية وهذا شكل من اشكال فساد العلماء الذي يؤدي الى فساد الأمة ، في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)([22]).
أذن فتردي أخلاق الامة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين، وفسادهما يؤدي الى مزيد من الفساد في احوال الامة .
لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كيفما تكونون يولى عليكم)، فصلاح احوال المسلمين يبدأ من اصلاح انفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح امورهم وتتغيرا احوالهم نحو الافضل بأذن الله تعالى
[1] راجع خطاب (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما) (طه114)
[2] كتاب حكم لقمان للريشهري: ص 8
[3] كتاب حكم لقمان للريشهري: ص 9
[4] الخصال: 111 ابواب الثلاثة ح 163
[5] الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب فرض العلم.
[6] الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب فرض العلم.
[7] الكافي: ج1 كتاب فضل العلم، باب سؤال العالم.
[8] من ثقات الاصحاب روى عن الإمام الصادق {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114 (عليه السلام) وتوفي في حياة الإمام الجواد (عليه السلام)
[9] ميزان الحكمة: 5/114 عن كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/300 ح 915.
[10] الكافي: ج2 كتاب الايمان والكفر، باب الكتمان.
[11] بحار الانوار: 28/313 عن عدة مصادر منها السقيفة للجوهري ووقعة صفين لنصر بن مزاحم.
[12] الكافي: ج2 كتاب الايمان والكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، ح 4
[13] الكافي: 8/296، الروضة، ح456
[14] الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص499
[15] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي: 20 : 284 ، كلمة رقم 248.
[16] خطاب المرحلة: ج4 ص 91
([17]) الخصال للشيخ الصدوق: باب الاثنين، ح12.
[18] البداية والنهاية : 7/300
[19] اصول الكافي: كتاب التوحيد: 51 باب انه لا يُعرف الا به، توحيد الصدوق: 286
([20])وسائل الشيعة: كتاب التجارة/ ابواب ما يتكسب به/ باب 47، ح1.
([21]) وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.
([22]) بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 88.
(23) بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 22.