خطاب المرحلة (272)... صلاة الجمعة المباركة الثانية: الاستعداد للوقوف بعرفة: الخطبة الاولى

| |عدد القراءات : 2699
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

صلاة الجمعة المباركة الثانية: الاستعداد للوقوف بعرفة (1)

       الخطبة الأولى:

 بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الحديث الشريف (إن لربكم في دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها)   والمقصود هنا نفحات إلهية خاصة بالمتعرضين لها وليست تلك الألطاف الإلهية العامة لكل البشر حتى الملحدين والكافرين والعاصين والتي بها يُخلقون ويرزقون ويتنعمون.

          والتعرض لها يكون بالتعرض لأسبابها وموجباتها، لأن نفس النفحات من شأن الخالق ولا نعلمها نحن حتى نتعرض لها، ومن أعظم تلك الموجبات وجودكم في هذه الأرض المقدسة المباركة:  حرم الله الآمن الذي لم يؤذن لأحد بالدخول إليه إلا بعد أن يحرم ويتجرد عن كل متعلقاته بالدنيا ويزور البيت الحرام ويطوف بالكعبة ويصلي ويسعى وهذه خصوصية تتفرد بها هذه البقعة المباركة.

          ووجودكم في هذا الزمان الشريف أيام الحج والعشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد فيها الدعاء (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرّفتها وقد بلغتنيها بمنك ورحمتك) فبلوغ هذه الأيام وعدم كون الإنسان من السواد المخترم قبلها نعمة وفضل إلهي يستحق الشكر والثناء.

          وقد اقتربتم من أعظم أسباب النفحات الإلهية وهو الوقوف في عرفة وما بعدها من المشاعر المقدسة فاغتنموا هذه الفرصة كسائر الفرص الممنوحة لكم كالتي ذكرها النبي (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه): (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)  وأنتم ترون كيف يؤدي كبار السن والعجزة مناسكهم بصعوبة وينوب عنهم غيرهم في كثير منها مما يحرمهم من أجور أدائها فاغتنم شبابك وحيويتك وعافيتك للازدياد من الطاعات.

          وبين أيديكم أيام هي من أيام الله تبارك وتعالى تفيض فيها خزائنه بالعطاء الذي لا حدود له فاستعدوا له وأول الاستعداد أن تتقنوا أحكام حجكم ومناسككم وتتعلموا تفاصيلها لتؤدوها على أكمل وجه بإذن الله تعالى.

          وضعوا لهذه الساعات المباركة برامج للعمل، فالوقوف بعرفة لا يزيد عن خمس أو ست ساعات (من الزوال إلى غروب شمس يوم التاسع) وهو وقت قصير بحساب الزمن لكنه ثقيل في حساب الأعمال فنظموا من الآن خطة العمل لاستثماره فإن الإنسان إذا لم يكن منظماً ومستعداً قد حضّر برنامجه فإنه سيعيش التشتت والإرباك والضيق وسوف لا يجد حلاً أمامه إلا النوم وكفى به مضيعة لهذه الجوهرة الثمينة.

          وقد حفلت كتب السنن والمستحبات بأعمال وأذكار وأدعية كثيرة فاختر منها ما يناسبك وما تنسجم معه ولا تكره نفسك على طاعة تتضايق منها وتعاونوا فيما بينكم فقد تأنس باستماع الدعاء أو تلاوة القرآن أكثر مما تقرؤه فالأصلح حينئذ أن يقوم أحدكم بقراءته وهكذا.

          ويوم عرفة يوم دعاء وتوبة وقد ضمن الله تبارك وتعالى الاستجابة لعباده. ففي رواية معتبرة عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (ما وقف أحدٌ في تلك الجبال إلا استجيب له، فأما المؤمنون فيُستجاب لهم في آخرتهم، وأما الكفار فيستجاب لهم في دنياهم)  واستجابة الدعاء للكفار في دنياهم باعتبار أنهم يطلبون ذلك لقصور هممهم فإن الله تعالى لا بخل في ساحته وهو أرحم الراحمين.

          ولا تقتصروا بالدعاء لأنفسكم ما دامت دعواتكم مستجابة فعمّموا لكل من أوصاكم بالدعاء ومن لم يوصكم ممن لهم حق عليكم، أو له مظلمة عليكم في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو جرحتموه بكلمة أو منعتموه من حقله أو أسأتم: إليه أو انتقصتم منه أو قصّرتم في حقه خصوصاً الوالدين والأرحام والجيران فإنكم تعجزون عن رد المظالم لهم ويكون الجزاء يوم القيامة بأن يؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم حتى تنفد، وحينئذ يؤخذ من سيئات المظلوم فتضاف إلى أوزار الظالم. لكنكم بدعائكم له يتوسط الله تبارك وتعالى بإرضاء المظلوم عن الظالم من دون أن ينقص منه شيئاً ليدخلوا متحابين إلى الجنة، قال تعالى: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ](الحجر: 47).

          وفي رواية صحيحة عن أبي حمزة الثمالي راوي الدعاء المشهور عن الإمام السجاد (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنه لما وقف بعرفة وهمّت الشمس أن تغيب) وهو وقت الانتهاء من الجهد والعمل وترقب النتائج وجني الثمار الطيبة (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال: إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم وغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم).

          قال الراوي: وزاد غير الثمالي أنه قال: (إلا أهل التبعات فإن الله عدل يأخذ للضعيف من القوي) وهذا بحسب عدل الله تبارك وتعالى فإن ظلم العباد للعباد ذنب لا يتركه الله تعالى حتى ينتصف المظلوم من الظالم. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مظهر الرحمة الإلهية في الخلق وصاحب القلب الرؤوف راجع ربّه في أن لا يستثني أحدٌ وأن يرضي المظلوم بما شاء من دون أن يعاقب الظالم المؤمن الذي لبى دعوة ربّه ووقف بين هذه الجبال. تقول الرواية (فلما كان ليلة جمع –وهي ليلة العاشر التي يقف فيها الحجاج على أرض مزدلفة- لم يزل يناجي ربّه ويسأله لأهل التبعات، فلما وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال (صلى الله عليه وآله): إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم، وشفع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا).

          وأكثروا من الدعاء لمولانا صاحب العصر والزمان فإنه أولى من أنفسنا وهو حجة الله على خلقه وبه قوام الوجود فاسألوا الله تعالى له الحفظ والتمكين والنصرة وتعجيل الفرج. 

أيها الأحبة:

هذا هو النعيم الذي ينتظركم بعد أيام وهذه الحياة الطيبة التي دُعيتم إليها، وهذه هي التجارة التي لن تبور. في الكافي والفقيه بسندهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، العامل بهما في جوار الله، إن أدرك ما يأمل غفر الله له، وإن قصر به أجله وقع أجره على الله (عز وجل)  وفي رواية معتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنه (سأله رجلٌ في المسجد الحرام من أعظم الناس وزراً، فقال: من يقف بهذين الموقفين عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين ثم طاف بهذا البيت وصلى خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) ثم قال في نفسه وظنّ أن الله لم يغفر له فهو من أعظم الناس وزراً). وغيرها من الأحاديث التي لا يسعنا ذكرها.



([1]) أقام سماحة الشيخ (دام ظله) صلاة الجمعة الثانية في مقر إقامته في مكة المكرمة يوم 6/ذو الحجة/1431 المصادف 12/11/2010.