خطاب المرحلة (212)... حياة الحسيـن كلها مواقف خالدة

| |عدد القراءات : 5714
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 بسم الله الرحمن الرحيم

 حياة الحسيـن كلها مواقف خالدة ([1])

 كلما يذكر الحسين (عليه السلام) تذكر معه كربلاء وكلما تذكر كربلاء يذكر معها الحسين (عليه السلام)، ويذكر معهما عاشوراء، وهذا الترابط الوثيق لان هذا المكان والزمان سَجَّلا للإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه موقفاً عقمت الأيام عن الإتيان بمثله في كل أبعاده خصوصاً المبدأي الذي جسده الإمام الحسين (عليه السلام) بأقواله وأفعاله وفي جميع مراحل مسيرته المباركة. والعاطفي الذي فجرته المأساة، فقد ورد في رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون)

 

أنــسـت رزيُتـكم رزايــانا التــي
وفجائع الأيام تبقى مدة وتزول

 

 

سلفت وهونت الرزايا الآتية
وهـــي إلى القيـامــة باقيـــة

 

 

وموقفٌ واحد مما تضمنته صحائف البطولة والمبادئ الإنسانية العليا في واقعة كربلاء كفيلٌ بتخليد صاحبه، لأن الإنسان يبقى بآثاره التي يُذكر بها (والذكرُ للإنسان عمرٌ ثاني) فها هو الحر الرياحي (رضوان الله تعالى عليه) قضى حياته في خدمة الطواغيت لكنه التفت في لحظة إلى عاقبة أمره وخيّر نفسه بين الجنة التي ثمنها نصرة الحسين (عليه السلام) والشهادة بين يديه، والنار التي تعقب ملك بني أمية ونعيمهم المزيَف، ولم يكن ليختار على الجنة شيئاً أبدا.

وهذا وهب بن حباب الكلبي رجل مسيحي لا يعرف عن الإسلام شيئاً لكن أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام) وسمو ذاته صعقته فأنقاد إليه وأسلم على يديه وقاتل دونه حتى أستشهد.

وهذا زهير بن القين كان عثماني الهوى بعيداً عن أهل البيت (عليهم السلام) لكن كلماتٍ من الإمام الحسين (عليه السلام) ملأت عليه قلبه وعقله وروحه فتعلق بالإمام (عليه السلام) وصحبه حتى قضى نحبه شهيداً.

وهذا (جون) عبد أسود مولى لأبي ذر الغفاري رخّص له الإمام الحسين (عليه السلام) بالانصراف ليلة العاشر من محرم  وقال (عليه السلام) له (إنك إنما تبعتنا طلبا للعافية) لكن جون أراد أن يختلط دمه بدماء السادة الكرام من آل النبي (صلى الله عليه وآله) فقاتل حتى استشهد ووقف الإمام (عليه السلام) على مصرعه وأكبّ عليه يدعو الله تبارك وتعالى أن يطيب ريحه ويجمعه مع النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين).

فهؤلاء لم يكن لديهم شيء يُذكرون به إلا موقفهم مع الإمام الحسين (عليه السلام) لكنه - لعظمته- كان كافياً لتخليدهم

نصروا ابن بنت نبيّهم طوبى لهـــم
قد جـــــــاوروهُ هاهنا بقـبورهـــم

 

نالـوا بنصرتــه مراتب ســامية
وقٌصــوُرهم يوم الجزا متحاذية

وقد ملكوا التاريخ بهذا الموقف ولم يملكوه بعدد من قتلوهم أو قاتلوهم أو أي شيء آخر، وليفهم هذه الحقيقة من يستشكل على من يعدد فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقتله عمرو بن عبد ود في معركة الخندق ومرحبا اليهودي في خيبر بان عنترة بن شداد قتل أيضاً الإبطال والأقران، فهذا لا يفهم إن العظمة في الموقف الذي من ملكه ملك المفاصل التاريخية لأنها مفاتيحه كالجيش الذي يمسك بممر استراتيجي أو ثغر قاتل لخصمه فينتصر.

وإذا كان موقف مثل يوم كربلاء كافٍ للخلود فإن حياة الحسين (عليه السلام) كلها مواقف وما يوم كربلاء إلا يوماً واحداً من أيام حياته الشريفة التي امتدت (57) عاماً.

 فمنذ كان طفلاً صغيراً يذهب هو وأخوه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) مع أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مسجد جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيستمعان إليه (صلى الله عليه وآله) يبين ما أوحى إليه وينقلانه إلى أمهما فاطمة الزهراء (عليها السلام) حتى رحل جدهّما وأمهما صلوات الله عليهما وكانت لهما مواقف مع غاصبي حق أبيهما أقاما فيها الحجة والدليل على الظالمين.

وكان مع أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع معاركه ومراحل حياته حتى أستشهد في محراب مسجد الكوفة المعظم ومع أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) مؤازراً ومسلّيا ومدافعاً حتى أستشهد سلام الله عليه. وعُرف وأخوه الإمام الحسن (عليه السلام) بالكرم والعطاء الجزيل الذي كان يغني الآخذ، وكان يعول بالكثير من العوائل التي فقدت أولياء أمورها في المعارك مع الذي خرجوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فأزهقت أرواح الآلاف.

وكانت له حلقة علمية لتفسير القرآن في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فيجيب على المسائل التي تستعصي على كبار الصحابة كما ورد في الرجل الذي سأل عن تفسير قوله تعالى (وشاهد ومشهود).

وكان (عليه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم يقول كلمة الحق في وجه الطغاة والظالمين ورسالته إلى معاوية لما قتل الكرام من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حُجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي ذكر فيها مثالب معاوية([2]) وأسرته وحذرّه من مغبة عمله، لكن الذي منعه من الخروج على معاوية بالسيف التزامه بالوثيقة التي وقعها أخوه الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية لإنهاء القتال ولم يفِ معاوية بشيء منها.

حتى كان ما كان من أمر تولي يزيد أمور المسلمين بعد وفاة معاوية فصدع الإمام (عليه السلام) بمعارضته ورفضه طاعة اللئام فآثر مصارعة الكرام (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلةِ والذلةِ وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

كان (عليه السلام) حنوناً عطوفاً حلو المعاشرة شمل برحمته حتى أعداءه حيث بكى على قاتليه شفقة من دخولهم النار بسبب جرأتهم على قتله.

وكان يغدق بالعطاء بمسألة وبغير مسألة ولا يظهر أمام السائل وإنما يعطيه من وراء الباب ويفسر (عليه السلام) ذلك بأنه كان لا يريد أن يرى في نفسه عزة المسؤول ولا في الآخر ذلة السؤال.

 التفَّ الناس حوله وأحبّوه حتى وُصِف يوم وصول خبر استشهاده إلى المدينة المنورة أنه كيومٍ مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن المدينة ضجّت بأهلها حزناً على فقده حتى أن مثل مروان بن الحكم الباغي عليهم والذي قسى قلبه فهو كالحجارة أو أشد قسوة كان يحضر إلى البقيع ويستمع إلى البكاء والمراثي التي كانت تنشدها أم البنين زوجة أمير المؤمنين أم العباس وأخوته فيبكي معهم كما روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين.

وكان متواضعاً يمشي وسط الناس ويجالس العبيد ويأكل معهم، مشى من المدينة إلى مكة المكرمة (480 كيلومتراً) حاجا عشرين حجة ماشيا على قدميه وإن النجائب (الخيول الأصيلة) لتقاد بين يديه لإركاب العاجز والضعيف تعظيما للبيت الحرام وتواضعا لله تبارك وتعالى، وكان لا يسير في الطريق العام خشية أن يتهافت عليه الناس تعظيما وتقديسا له وتبركا به ويقول (عليه السلام) (لا أريد أن أأخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر مما أعطيه).

وأما معرفته برّبه فهو سيد العارفين وابن سيد العارفين، ويتعلم من دعائه الشريف يوم عرفة العرفاء الشامخون وفيه يخاطب ربه راهباً متضرعاً (كيف يُستدل ُّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِرُ لك، متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك، ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وَخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حُبكَ نصيباً) ويناجي ربه وهو صريع قد فَقَدَ أحبته وأولاده وإخوانه (إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، لك العتبى يا رب).

هكذا كانت أيام الحسين (عليه السلام) كلها عظمة ونبل وسمو وأخلاق فاضلة وشجاعة وبطولة وكرم وإباء وهداية إلى السعادة والكمال. فلننهل من سِفرِ الحسين (عليه السلام) كل هذه المآثر ولنأخذ من كل أيام الحسين (عليه السلام) وإن كان يوم الطف وحده كافياً ولذا قيلت الكلمة المشهورة (سُفرةُ الحسين واسعة) لأن كل من طلب الكمال والعظمة بكل جوانبها وجدها في سِفرِ الحسين (عليه السلام).

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته.



([1]) الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي تلبية لطلب الأخوة القائمين على موقع المرجعية باللغات الألمانية والانكليزية والتركية لترجمتها ونشرها بمناسبة ذكرى عاشوراء وتاريخها 7 محرم 1430 الموافق 4/1/2009.

([2]) مما جاء فيها (ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة؟ والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنتَ أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تؤاخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك )وفيها (أولستَ قاتل عمر بن الحمق صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربّك واستخفافا بذلك العهد ).