مـــــــــــن أيــــــــــن نبدأ
بسمه تعالى
مـــــــــــن أيــــــــــن نبدأ[1]
إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات مهمة وذات فوائد عظيمة ، أولها نفس الاجتماع والتلاقي وتبادل الأفكار ووجهات النظر بغض النظر عما تسفر عنه من نتائج ، وهي تندرج في مصاديق قول الإمام الصادق (ع) (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا )،
وهي فرصة للمراجعة والتقييم والنقد البنّاء وتحديد مواطن النجاح والفشل .
وقد اخترت عنواناً لحديثي هو (من أين نبدأ) وهو لا يعني طبعاً إننا لازلنا لم نبدأ بعد، فان جهوداً مشكورة كثيرة قدمّت ولا زالت، ولكننا أمرنا بمراجعة أنفسنا (ليس منّا من لم يحاسب نفسه ) والنفس التي تحاسب شاملة لنفس الفرد والمؤسسة والكيان والمشروع وحتى الدولة ، وبعد كل محاسبة تكون هناك بداية لانطلاقة جديدة نحو العمل وفق نتائج هذه المحاسبة فنديم كل عناصر الخير والنجاح وننميها ، ونعالج كل مواطن الفشل وتصليحها ، فعن هذه البداية أتحدث وأقول من أين نبدأ.
ووجدت كلمة مختصرة لبعض الأعاظم- وهو العالم العامل المرحوم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قده) -تصلح أن تثبت هذه البداية والأساس الذي ننطلق منه نحو النجاح والفلاح، قال (قده) : (بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ) وقد لخصها (قده) ببلاغته المعروفة من وصايا القرآن الكريم والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
وأقول هنا إن الأساس والمنطلق بالدقة هو واحد وهي كلمة التوحيد أما توحيد الكلمة فهو أثر من آثار الصدق في تبني عقيدة التوحيد ، والقائل يعرف ذلك لكنه أراد إلفات النظر إلى أهمية توحيد الكلمة في بناء الجماعة الصالحة المؤمنة وتشييد كيانها .
وقد نبهنا أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة بقوله (ع) (أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ) فمن هنا يبدأ البناء وعلى هذا الأساس يستقر ، إنها المعرفة بالله سبحانه المستندة إلى توحيده تبارك وتعالى ، وعلامة التوحيد الصادق الذي يتجاوز مرحلة لقلقة اللسان الى انعقاد القلب على التسليم لله تعالى والإخلاص له ، فأصبح الإخلاص هو خلاصة التوحيد الذي هو تمام المعرفة بالله سبحانه وكمالها.
والإخلاص – لغة- يعني التصفية ، قال تعالى (بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ) النحل66، أي مصفى من الفرث والدم وآثارهما اللذين خرج من بينهما .
ولكن معنى الإخلاص هنا في المصطلح تجريد النية والغرض والهدف عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى سواء على مستوى الأفعال والسلوكيات والعلاقات مع الآخرين ، أو على مستوى المشاعر والأحاسيس التي تكتنف القلب وتملأه فيكون الحب في الله والبغض في الله ، والغضب لله ، والعمل لله ، وهكذا .
والإخلاص له مراتب، كما أن ضدّه وهو الشرك له مراتب قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف106، وقد تختلط مراتبهما وتتداخل وتتشابك في أعماق الإنسان في عملية معقدة تخفى حتى على صاحبها، لذا سمي بالشرك الخفي وشبهه الحديث الشريف بأنه أخفى من دبيب النمل بين الصخور في الليلة الظلماء ولذا وصف الصراع داخل الإنسان من اجل تحقيق الإخلاص بأنه (الجهاد الأكبر) ومحلهما معاً القلب الذي إن نقي عما سوى الله تبارك وتعالى كان قلباً سليماً ، قال تعالى {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }الشعراء89.
والحديث عن تعريف الإخلاص وحقيقته وحدوده ومراتبه وكيفية امتحان تحققه وما هي معوّقات الحصول عليه، ومسارب الشيطان لتشويشه ومعالجة هذه المشاكل حديث طويل تعرضت له كتب الأخلاق والمعرفة وقد نصحنا بمراجعتها باستمرار كموسوعة الفيض الكاشاني(قده) (المحجة البيضاء) وجامع السعادات والقلب السليم .
وتدل الأحاديث على أن الإخلاص هو مفتاح الفلاح والفوز بالألطاف الإلهية ففي الكافي عن الإمام الباقر(ع) (ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوماً إلا زهّده الله في الدنيا وبصرّه داءها ودواءها ، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه).
لذا أمرنا بالإخلاص في إعمالنا ونيّاتنا، قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }البينة5 ، وقال عزمن قائل {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }الزمر3 ، وقال تعالى ({إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لله }النساء146.
ولا ينجو إنسان أو شريحة من البشر من هذا الصراع حتى العلماء والمنشغلون بالعمل الإسلامي إلا من عصم الله تبارك وتعالى ، قال سبحانه حكاية عن إبليس اللعين ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص 82-83) . فقد يطلب بعضهم العلم ليستأكل به أو ليماري به الناس أو ليبرز ويشار إليه وغيرها من النيات الباطلة والعياذ بالله .
وإما الركن الثاني الذي ننطلق منه ونؤسس عليه فهو توحيد الكلمة لأنه يحفظ الكيان وعزته وهيبته وتأثيره ، واذا حصل التفرق آل الكيان إلى الضياع فلا تبقى حتى كلمة التوحيد إلا أن يشاء الله شيئاً ، قال تعالى (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )الأنفال46 وهذه الآية تؤكد الحقيقة التي قلناها وهي أن كلمة التوحيد (طاعة الله ورسوله) هي الحبل الذي إن تمسكت به الأمة واعتصمت به حفظت وحدتها وكيانها ، ولا يقع التنازع بينها إلا إذا كان هناك خلل في إخلاصها وتوحيدها وعندئذ تأتي المرحلة الثانية وهي التنازع والتقاطع والتشاجر ثم المرحلة الثالثة وهي الفشل والخذلان وحينئذ تكون النتيجة الحتمية الانهيار الكامل وذهاب الكيان والقوة والدولة .
ان التنازع والخلافات لا مكان لها ولا يمكن تبريرها إذا توفر الإخلاص، وحينما يحصل اختلاف في الرأي او في آليات العمل فيحلُ بالحوار البناء الواعي وتغير القناعات وليس بالصراع. فالاختلاف و التنوع حالة طبيعية بل وايجابية بناءه تدل على عافية الأمة وحيويتها ، أما الخلاف فهو حالة سلبية هدامة لا مبرر لها .
لنأخذ درساً في قصة النبي موسى (ع) وأخيه النبي هارون لما استخلفه على قومه وذهب إلى مناجاة ربّه، فأضل قومه السامري وجعل لهم عجلاً جسداً له خوار ودعاهم إلى اتخاذه رباً وعبادته ووقف هارون في وجه هذا الانحراف والفساد وواجهه إلا انه لم ينشق عنهم وقال لأخيه موسى لما رجع إليهم {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }طه94 فكانت المحافظة على وحدة قومه هو المشروع الأهم لديه لأنه وعاء حفظ العقيدة والكيان والمشروع ، وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم وجهاً لما جرى على النبي يونس حين انشق عن قومه وخرج مغاضباً فالتقمه الحوت وهو مليم، قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء 87-88.
حتى المباينة والاعتزال والمقاطعة التي أمرنا بها مع أهل المعاصي لا تعني الانشقاق والانفصال لأنه ابتعاد عن تحمل المسؤولية وتخلّي عن أداء الواجب لان هؤلاء هم ساحة عمل الرسالي الذي يدعو إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإذا هجرهم فسيضيع على نفسه فرصة هداية الآخرين إلى تبارك وتعالى . وإنما تعني المباينة والاعتزال في الأخلاق والأفعال والسلوكيات بحيث تتضح معالم الفرق بين المنهجين والسلوكين وان كانا مختلطين بأبدانهم .ولم يبعث الأنبياء (ع) ولا استخلف الأئمة لكي يتقاطعوا مع الآخرين فيعتزلوا الناس ويقبعون في بيوتهم ، بل بُُعثوا بالحركة والمخالطة والعمل لكن من دون ذوبان او اندماج وخلط أرواق ومداهنة مع أهل المعاصي والفسق والكفر .
وعلى هذا فالتواصل مع إخوانك المؤمنين الذين قد تختلف معهم بالرأي او قد لا تفهم ما صدر منهم على وجه صحيح أولى وأوجب وأحق، وكلنا خطّاءون وخير الخطائين التوابون، لكن هذا لا يبرر التنافر والتقاطع أو الانزواء والتقاعس ، لان نتيجته ذهاب الكيان والقوة والمنعة وحينئذ يدفع الثمن الباهض حتى من لم يكن سبباً في هذه النتائج قال تعالى (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) الأنفال -25. وحينما تنازعت الأمة وشككت وتقاعست في بعض مفاصلها التاريخية كان ضحية ذلك أمير المؤمنين (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع) والطاهرين من أولاده (ع) .
ومن هنا كانت وصيتي بأن يكون الأساس الذي ننطلق منه في عملنا المبارك ونشيّد عليه المشروع الإلهي هو الإخلاص في العمل وحفظ وحدة الكلمة ، والله المستعان .
[1] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء والخطباء المشاركين في ملتقى ائمة الجمعة والجماعة في محافظات العراق يوم الثلاثاء 10/ ربيع الثاني / 1430 هــ المصادف 7/4/2009