بادر الى التوبة فأنها تصعب بالتأخير التورط بأموال الناس نموذجاً

| |عدد القراءات : 2278
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) (النساء:17)

بادر الى التوبة فأنها تصعب بالتأخير[1]

التورط بأموال الناس نموذجاً

قال الله تبارك وتعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:17-18) فالآية تبين ان قبول التوبة - اي قبول الله تعالى لعبده بعد ان يعود العبد الى ربه بالندم والاستغفار لان التوبة تعني الرجوع فالحركة متبادلة بين العبد وربهِّ (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ) (التوبة:118). وقال تعالى (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (المائدة:39) - حق فرضه الله تبارك وتعالى على نفسه للذين وقعوا في المعاصي والذنوب رحمةً بهم وشفقةً عليهم ولعلمه تعالى بضعفهم وقصورهم اذا تابوا وندموا من قريب ولم يسوّفوا التوبة ويؤجلوها تمادياً في المعصية.

ولم يحدَّد سبحانه الوقت القريب لأنه ممتد مادامت التوبة لها أثر إيجابي في حياة الانسان لكنها كلما كانت سريعة كانت أجدى في زوال اثر المعصية والعودة الى الاستقامة.

روى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن الامام الصادق عليه السلام ان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال في آخر خطبة خطبها (من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: ان السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: ان الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الجمعة لكثيرة، ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: ان يوم لكثير، ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: ان الساعة لكثيرة، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه – وأهوى بيده الى حلقه – تاب الله عليه)[2]

ومثل الآية محل البحث آيات عديدة كقوله تعالى (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (الأنعام:54) ومثلها (النحل /119) .

 وهذا لا يعني غلق الباب على غيرهم فرحمة الله تسع الجميع، ففي أصول الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (اذا بلغت النفس ها هنا ـ وأشار الى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، ثم قراء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ)[3]  لكن هذه الآية تذكر شرطي التوبة التي اوجب الله تعالى على نفسه قبولها وهما التوبة من قريب وان يكون صدور الذنب بجهالة. اما الذين لا يبادرون الى التوبة ويؤجلونها ثم يتوبون قبل ان يدركهم الموت فهؤلاء موكولون لأمر الله تعالى، قال سبحانه (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:106) فهؤلاء صنف بين من تقبل توبتهم حتماً ومن لا تقبل وهو من لا يتوب حتى ينزل به الموت.

والجهالة هنا ـ كما في الموارد القرآنية الأخرى ـ ليست مقابل العلم لان الجاهل بحرمة شيء قد يكون معذوراً ولأنها قد تطلق على العالم أيضاً وقد وصفت حال الأمم قبل الإسلام بالجاهلية مع ان فيهم من بلغ من العلوم والحضارة المادية مرتبة متّقدمة، وانما تعني الحماقة والسفاهة والنزق وعدم الحكمة في التصرف وعدم وضع الأمور في موضعها الصحيح والانسياق وراء الشهوات والنزوات بلا تعقل، روى العياشي في تفسير هذه الآية عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (يعني كل ذنبٍ عمله العبد وان كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، وقد قال فيه تبارك وتعالى يحكي قول يوسف لاخوته (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف:89). فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله)[4] قال تعالى (أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة:67) وكأنه اعتبر عدم انتفاعه بعلمه كعدم العلم وقد قال الراغب في معاني الجهل ((فعل الشيء بخلاف ما حقّه ان يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا او فاسدا)).

وكأنه أريد بهذا القيد (بجهالة) إخراج مرتكب الذنوب عناداً وتمرداً واستكباراً على رب العزة والجلال وإنكاراً لقدرته تعالى.

 وينبغي الالتفات الى ان هذا الوعد الإلهي الكريم لا يصح ان يكون سبباً لاغترار[5] الانسان واستخفافه بمقام ربه تعالى، وانما عليه ان يستعصم بالله تعالى ويطلب منه العون على تجنب الذنب اصلاً، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (ترك الذنب اهون من طلب التوبة)[6] ولكن لو حصل الذنب فالمطلوب المبادرة الى التوبة وإصلاح الحال  لكي يكون مشمولا بالآية الكريمة ولان الاستمرار على الخطأ والخطيئة يصعّب العودة ويعقّد الوضع وتكون النتيجة عدم التوفيق للتوبة. من وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبن مسعود (لا تقدِّم الذنب ولا تؤخر التوبة، لكن قدِّم التوبة  وأخرّ الذنب)[7]، ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) (لاتكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجئ التوبة بطول الامل ... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية ـ أي عجّلها ـ وسوّف التوبة)[8] وله (عليه السلام) أيضاً (إن قارفت سيئة فتعّجل محوها بالتوبة)[9]

وأذكر لكم رواية تبيّن صعوبة التوبة بالتأخير وهي تتعلق بأحد الذنوب الكبيرة التي كثر الابتلاء بها وهو الدخول في اعمال الظالمين والفاسدين وسرّاق المال العام  طمعاً بالاستفادة من دنياهم، سواء كان هؤلاء الظلمة قادة سياسيين او رؤساء عشائر او تجار ورجال اعمال او زعماء جماعات القتل والخطف والابتزاز وقبض الرشاوي ونحو ذلك، وقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على الحرمة المغلّظة للدخول في أعمالهم، منها عن ابي بصير قال (سألت ابا جعفر الباقر (عليه السلام) عن أعمالهم ـ أي الولاة الظلمة ـ فقال لي: يا أبا محمد، لا ولا مدة قلم، ان أحدهم (أحدكم) لا يصيب من دنياهم شيئاً الا اصابوا من دينه مثله)[10].

فالحذر الحذر من الدخول في شيء من ذلك ومن تورّط فعليه بالإسراع في الخروج منها والا فان الرجوع الى الحق سيكون صعباً، روى الشيخ الكليني بسنده عن حميد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اني ولّيت عملاً ـ أي من اعمال الظالمين وولاياتهم ـ فهل لي من ذلك مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه، قلت: فما ترى؟ قال: ارى ان تتقي الله عز وجل ولا تعد)[11].

ولكي نعرف كيف يصعب الحل ويصبح ثقيلاً جداً على النفس الاستجابة اليه، نقرأ الرواية التالية من الكافي بسنده عن علي بن ابي حمزة قال (كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذنت له، فأذن له، فلما ان دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك أني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيرا، وأغمضت في مطالبه - أي لم أدقّق في كون مصدره حلالاً أو حراماً - فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لو لا ان بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم  ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا الا ما وقع في أيديهم) وهكذا كل الطغاة والظالمين والفاسدين لولا انهم وجدوا من يمكّنهم ويسلطّهم بالقوة او بالانتخابات لما وجدوا مجالاً لممارسة الظلم والفساد لانهم لا يملكون القدرات الذاتية التي تمكنّهم من فعل شيء كشرذمة بني امية وسائر الطواغيت والظلمة (قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: ان قلت لك تفعل؟ قال: أفعل، قال له فأخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم) أي من أصحاب الحقوق المالية (رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وانا أضمن لك على الله عز وجل الجنة، فاطرق الفتى طويلاً) لان المطلوب منه  صعب عسير وقد تعوّد على وضع اجتماعي ومالي لا يستطيع الخروج منه الا ذو حظ عظيم وهذا معنى قولنا  ان التوبة تصعب بالتأخير (ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك. قال أبن ابي حمزة: فرجع الفتى معنا الى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض الا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا اليه بنفقة، قال: فما اتى عليه الا أشهر قلائل حتى مرض) وربما كان مرضه لثقل الهم والشعور بالمسؤولية امام الله تعالى وضريبة الغفلة التي كان فيها قبل أن يستيقظ (فكنا نعوده، قال: فدخلت يوماً وهو في السوْق[12] قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك، قال: ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)، فلما نظر الي قال لي: يا علي وفينا والله لصاحبك، قال: فقلت صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته.)[13]

أقول: وهكذا في سائر الامور علينا المبادرة الى اصلاح الخطأ ومعالجة الخلل قبل ان يتسع ويتعذر إصلاحه، مثلاً يحصل خلاف وسوء تفاهم بين شخصين كالزوجين أو الاخوين أو بين جماعتين، فعليهم ان ((يعبروا النهر ما دام ضيقاً)) كما في المثل العامي اما اذا استمروا في الخلاف وتدخلت عناصر أخرى بالقيل والقال فان المشكلة تستعصي على الحل.

ومما يزّيد صعوبة التوبة ايضاً فيما لو تسبّب بتوريط الاخرين في الظلم والمعصية والضلالة كدعاة الفسق والفجور والالحاد والعزوف عن الدين وتشويه صورة الصالحين وتسقيطهم او دعوة الناس الى اتباعه بغير استحقاق ونحو ذلك لان من شروط التوبة حينئذ ان يصحّح ويعالج كل ما تسبب به ويلاحقه أينما كان. وهذا قد يستحيل تحقيقه وليس له الا لطف الله تعالى وكان عليه ان يتورع من اول الامر ولا يتورط بأمثال هذه المعاصي فيصبح ضالاً ومضلاً.

 



[1] - ورد بعضها في كلمة ألقاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على جمع من طلبة عدة كليات في جامعة كربلاء يوم الثلاثاء 9 / شوال / 1438 المصادف 4 / 7 / 2017.

[2] - الفقيه: 1/133 ح 351

[3] - الكافي: 1/37 ح 3

[4] - تفسير العياشي: 1/228 ح 62

[5] - راجع خطاباً سابقاً في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)

[6] - بحار الانوار: 73/346 / ح 96

[7] - مكارم الاخلاق ص 29، بحار الانوار: 77/104 ح 1

[8] - بحار الانوار: 6/ 37 ح 60

[9] - بحار الانوار: 77 / 208 ح 1

[10] - الوسائل:17/179 أبواب ما يكتسب به باب 42 ح 5

[11] - الوسائل: 17/189 الباب 45 عسر التوبة ح 5

[12] - أي حالة الاحتضار ونزع الروح فكأنها تُساق لتخرج من البدن

[13] - وسائل الشيعة: 17 / 199 ، أبواب ما يكتسب به، باب 47 ح 1