(النور 79)

| |عدد القراءات : 1974
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

في تأبين المرجع العارف الشيخ محمد تقي بهجت([1])

          إننا لله وإنا إليه راجعون.

          نقلت لنا وسائل الإعلام خبر رحيل المرجع العارف والعالم العامل سماحة الشيخ محمد تقي بهجت (أعلى الله درجته) إلى جوار ربه الكريم عن عمر ناهز (96) عاماً.

          كان الفقيد آخر من بقي من ثمار مدرستين عظيمتين:

(الأولى) في الفقه والأصول التي شيدها الأساطين الثلاثة الميرزا النائيني (ت 1355 هـ) والشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1361) والشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1363) وخرّجت الفحول من المراجع والعلماء وقد أدركها الفقيد الراحل حيث وصل النجف مهاجراً من مدرسة قم عبر مدرسة كربلاء عام 1354 هـ وحضر عند هؤلاء الأعاظم واستفاد منهم وعاد إلى قم  عام 1364 مكتفياً عن الحضور إلا قليلاً وكان مشاركاً فاعلاً في مجلس البحث الخاص الذي كان يعقده المرجع الراحل السيد البروجردي (قدس سره) ويشارك فيه المراجع العظام كالسيد الخميني والسيد الكلبايكاني (قدس الله سريهما) واشتغل بالبحث والتدريس والتأليف طيلة خمسين عاماً حتى وافاه الأجل وترك آثاراً مباركة.

(الثانية) مدرسة السلوك والعرفان التي انتهت إلى المرحوم السيد علي القاضي الطباطبائي والشيخ الطالقاني (قدس الله سريهما) وقد استفاد منها الفقيد الراحل إيّما استفادة ووجد فيها بغيته إذ كان منذ صباه نقياً طاهراً مقبلاً على عبادة ربه تبارك وتعالى، ويتحدث أقرانه في هذه المدرسة –وهم من أهل المعرفة كالشيخ عباس القوجاني والسيد محمد حسين الطهراني- عن مرتبة سامية بلغها الفقيد الراحل، ثم أضاف إليها بعد عودته إلى قم ما حباه الله تبارك وتعالى من ألطاف وفتح له من آفاق المعرفة وسبل الوصول إلى الكمال، ولم تكن سيرته وتوجيهاته (قدس سره) إلى الآخرين تخرج عمّا سنّة المعصومون (سلام الله عليهم)، لذا كان ينتقد من ينصبون أنفسهم شيوخاً ومعلمين للسلوك ويبتدعون برامج وأعمال لمريديهم وأتباعهم، ويقول (قدس سره) ساخراً: لو كان شيء من هذا خيراً لأخبرنا به المعصومون (عليهم السلام) لأن غرضهم كان هداية الخلق وسعادتهم فلم يخفوا شيئاً مما يحصّل هذا الغرض.

          وحينما نحاول دراسة شخصية المرجع الراحل لنتلمّس العناصر التي صنعته نجد على رأسها إخلاصه لله تبارك وتعالى وإعراضه عن الدنيا وهمّته العالية والجد والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة ومراقبته نفسه، واجتنابه مضيعة الوقت بما لا ينفعه في طريق الكمال حتى المباحات التي يمكن أن تأخذ عنواناً راجحاً كالترويح عن النفس، يروى عنه أن أحد مريديه كان يكرر الدعوة عليه ليزور بستانه يوم العطلة والشيخ يسوّف إلى أن استجاب له وحضر في الموعد المحدد ومعه دفتر وقلم ليستغل الوقت بالبحث.

          كان (قدس سره) يرى أن خير معلم هو العمل بما تعلم تطبيقاً للحديث الشريف (من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم) والحديث (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)، ويوجه إلى تصيد الموعظة والاتعاظ بها، وما أكثر المواعظ في أنفسنا وفي الآفاق ولكن ما أقل الاتعاظ. وكما يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار).

          إن المدّعين للسلوك والعرفان كثيرون لكن الصادقين قليلون ومنهم الفقيد الراحل (قدس سره) لأنه استقاه من العين الصافية وهم أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وكان ينصح من يطلب منه برنامجاً لتهذيب النفس أن يفتح أبواب (آداب العشرة) من كتاب الحج وكتاب (جهاد النفس) وكتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في وسائل الشيعة ويلتقط حديثاً ثم لا يفارقه إلى غيره حتى يعوّد نفسه على مضمونه، وإذا احتاج المبتدئون إلى شرح فليستفيدوا من كتاب (جامع السعادات) للنراقي و (المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء) للفيض الكاشاني (قدس الله سريهما).

          فلا يشكُوَنَّ أحدٌ من عدم وجود المعلم أو المربي وبين أيدينا هذه الكتب الناطقة التي حملت إلى الأجيال غرر كلمات المعصومين (سلام الله عليهم) فهم حاضرون بيننا بآثارهم المباركة، أترى لو أننا كنّا في زمانهم (عليهم السلام) هل سنحصل على أكثر من سؤال فيجيبونه أو مشكلة يحلونها أو يبتدأوننا بكلمة تنفعنا وهذه كلها قد وصلت إلينا عبر هذه الأحاديث المباركة.

          ولا أستغرب أن أجد توجيهاته (قدس سره) متطابقة مع ما استفدناه من سيدنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وما نوصي به فإن الأصل واحد.

          وكان (قدس سره) يهتم كثيراً بطلب العلوم الدينية ويراه أكمل الطرق للوصول إلى الحق تبارك وتعالى ويحثّ الكلّ عليه، ومع تحرّزه من التصرف بالحقوق الشرعية إلا أنه (قدس سره) كان يرى صرف طالب العلم منه على نفسه أمراً راجحاً إذا كان يعينه على التفرغ له.

          وحينما نقرأ في بداية تحصيله (قدس سره) أنه أخذ مقدمات العلوم في مدينة (فومن) التي ولد فيها وهي من مدن محافظة كيلان شمال إيران نسجّل بإكبار هذا السبق للحوزة العلمية في إيران التي أخذت على عاتقها نشر حوزاتها ومدارسها في كل مدن إيران وأتاحت بذلك الفرصة لكل من يرغب بالدراسة، وفتحت أعين الناس على هذا المسلك المبارك، ولو بقيت محصورة في قم المقدسة لما وردها إلا قليل لجهل الناس بتفاصيلها، ولكنها لما وصلتهم أينما كانوا واحتضنتهم ووفرت لهم أسباب التحصيل وعرفوها فعشقوها فالتحقوا بها فاكتسبت بذلك جماً غفيراً من العلماء والفضلاء تلقّى أكثرهم المقدمات في مدنهم البعيدة وخففوا بذلك على حواضر العلم التي يفترض فيها أن تكون معهداً للدراسات العالية.

          وهذا ما سعينا لتحقيقه من خلال نشر فروع جامعة الصدر الدينية وجامعة الزهراء (عليها السلام) في مدن وسط وجنوب العراق بلطف الله تبارك وتعالى عسى أن تنضج وتتحول إلى حوزات علمية متكاملة في جميع مدن العراق بلطف الله تبارك وتعالى.

          إن فقد الشيخ بهجت العالم العامل سبّب ثغرة وثلمة في الإسلام لا يسدّها شيء أبداً إلا بمواصلتكم طريق العلم والعمل الصالح حتى تصبحوا مثله بلطف الله تبارك وتعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الحديد: 21).

 



([1]  ) تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة الشيخ إلى طلاب بحثه الخارج في الفقه يوم الاثنين 22/ج1/1430 بمناسبة وفاة المرجع الشيخ بهجت الذي وافته المنية عصر الأحد ودفن يوم الثلاثاء إلى جوار حرم فاطمة المعصومة في قم المقدسة.