الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)

| |عدد القراءات : 4946
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)([1])

          مرّت علينا قبل أيام ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث استذكرنا فيها دوره الواسع في حياة الإنسانية جميعاً مما زخرت به الكتب الكثيرة، وبهذه المناسبة أودّ بيان معنى مرتكز في أذهان المتشرعة وتتداوله كتب العلماء والمفكرين وهو أن المجتهد العادل: نائب عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ويستمد شرعيته ووجوب طاعته من هذه النيابة العامة عن المعصومين (سلام الله عليهم).

          وهذا المعنى يحتاج إلى توضيح وربما لشيء من التصحيح إذ لا يمكن إطلاق لقب نائب الإمام على كل مجتهد عادل حتى لو كان مرجعاً تتوفر فيه الشروط الأخرى المذكورة في الرسالة العملية، ما لم ينهض بأعباء ومسؤوليات الإمام الواسعة بحسب استعداداته وقابلياته الناشئة من الفوارق الذاتية بين المعصوم وغيره؛ لأن ذلك مقتضى معنى النيابة، وهذا واضح في سائر المواقع كالوظائف السياسية والإدارية فإن النائب يقوم بواجبات المنوب عنه في غيابه، أما إذا كان يتمتع بالامتيازات أكثر مما يقوم به من الواجبات فهذا مصداق للمطففين الذين وعدهم الله عز شأنه بالويل.

          وقد بالغ البعض فأطلق لفظ (الإمام) على مرجع تقليده في ظل حمّى الألقاب الرنانة والتعصب لهذا المرجع أو ذاك من دون استحقاق لتلك الألقاب ويفتقر إطلاقها إلى المصداقية بحيث يبدو نشازاً.

          أتذكر أن أحد الأساتذة الأكاديمين في الجامعات ألّف كراساً بعد انطلاق صلاة الجمعة المباركة على يد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عنوانه: (الإمام والرئيس) يتحدث فيه عن مؤهلات القيادة للسيد الشهيد (قدس سره) وملامح مشروعه، وعرضه بواسطة أحد الفضلاء عليه (قدس سره) لتقييمه، وبمجرد وقوع نظره الشريف على العنوان رفضه واعتبر ذلك من مختصات المعصوم (سلام الله عليه) مهما قيل فيه من مبررات.

          إن الإمامة مرتبة أعلى من النبوة، وقد دلّت عليه الآية الشريفة: [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً] (البقرة: 124) وقد كان ذلك بعد نبوته وبعد أن اتخذه الرحمن خليلاً، وهذا التقدم في الرتبة واضح من معنييهما فإن النبوة هي تحمّل العلم بالنبأ والمعرفة بالله تبارك وتعالى والتوحيد الخالص وممارسة تكليفه في إيصال ذلك إلى الناس على نطاق محدود كقومه أو مدينته، أما الرسالة والإمامة فهي تعني الانطلاق بعد ذلك إلى المخلوقين عامة لهدايتهم وعدم الاكتفاء بإراءة الطريق لهم على نطاق محدود وإنما الأخذ بأيدي الناس كل الناس والسير بهم في طريق الكمال لكي يبلغوه بحسب استحقاقهم.

          فالمرجع الذي لا يتحرك بالمشروع الإلهي ولا ينزل إلى أرض الواقع ليقنع الناس به ويأخذ بأيديهم في طريق الهداية والصلاح والتكامل لا يصلح أن يكون نائباً للمعصوم حتى لو طبع رسالة عملية تاركاً الخيار للمكلفين إن شاءوا أخذوا بها أو لم يأخذوا وينتظر من يراجعه ولا يتحرك هو إليه بشكل من الأشكال. لأن غاية ما تؤديه هذه الأمور إراءة الطريق والعمل على نطاق محدود وهي وظيفة الأنبياء وطوبى لمن وصلها، لكن الإمام هو من لا يقتصر دوره على ذلك وإنما يأخذ بأيدي الناس ويوصلهم إلى الهدف كمن لا يكتفي بدلالة التائه الذي لا يعرف الطريق الذي يوصله إلى ضالته، وإنما يصطحب هذا التائه ويوصله إلى هدفه، وهذه هي وظيفة أصحاب الرسالات وهم الرسل والأئمة (عليهم السلام)، فنائب الإمام يرث منهم هذه المسؤوليات الواسعة.

          نعم يجوز –إذا اجتمعت فيه الشروط المذكورة في الرسالة العملية- أن يتصدى لبعض مسؤوليات نواب الإمام (عليه السلام) كقبض الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها والإفتاء إن كانت له الأهلية لذلك، والقضاء بين الناس، ويكون وكيلاً عن الإمام في القيام بهذه الوظائف، والوكالة له ليست كالنيابة لأنها تكون محدودة بمساحة معينة، كمن يوكّل شخصاً في شراء بضاعة أو تعقيب معاملة أو قبض مال وهذا لا يعني أنه نائبه في كل أموره، فكثير من المراجع والعلماء المجتهدين هم وكلاء الإمام وليسوا نوابه.

          ويتضح هذا الفرق عند التأمل في حديثين وردا في فضل العلماء، أحدهما قول الإمام (عليه السلام): (العلماء ورثة الأنبياء)([2]) وثانيهما (الفقهاء أمناء الرسل)([3]) بضميمة ما رواه أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: (الفقهاء قادة)([4])، فالعلماء بما تحملوا من علوم هم ورثة الأنبياء، أما إذا تحركوا بهذا العلم في واقع حياة الناس لإقناعهم بالرسالة الإلهية استحقوا أن يكونوا أمناء للرسل حملة الشرائع السماوية وامتداداً لدورهم الرسالي، فالفرق بين العالم والفقيه الذي يستحق قيادة الأمة وولاية أمورها كالفرق بين الأنبياء والرسل الذي هو معلوم، واستحقوا بذلك أن يكونوا قادة للأمة ونواباً لأصحاب الرسالات المعصومين (سلام الله عليهم).

          وهذا الفرق بين نيابة المعصوم (عليه السلام) والوكالة عنه بالرغم من أنه على مقتضى القاعدة التي قربناها، وأنه لا دليل عندهم على أن كل عالم مجتهد عادل تتوفر فيه شروط التقليد هو نائب عن الإمام، وكل الذي ورد هو تخويله ببعض الأمور كالإفتاء والقضاء بين الناس –كما في مقبولة عمر بن حنظلة-. ولا تصلح النيابة إلا لمن تحمل وظائف الإمام (عليه السلام) في حياة الأمة، أقول بالرغم من ذلك كله فقد دلت عليه بدقة رواية معتبرة.

          فقد روى المحقق الثقة الشيخ عباس القمي في كتابه المعروف (مفاتيح الجنان)([5]) عن الميرزا حسين النوري (قدس سره) صاحب مستدرك الوسائل حادثة لقاء الحاج علي البغدادي (الذي وصفه بالسعيد الصالح الصفي المتقي) وأوردها النوري في كتابيه (جنة المأوى) و (النجم الثاقب)، ولها فوائد جليلة، ومحل الشاهد منها أن الحاج البغدادي لما أخبر صاحبه في الطريق –وهو لا يعرفه أنه الإمام المهدي (عليه السلام)- أنه أعطى جزءاً من حقوقه الشرعية إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجزءاً إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي –صاحب هداية الأنام- وادّخر جزءاً لإعطائه إلى الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي، فقال له (عليه السلام): (نعم قد أبلغت شطراً من حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف).

          إن هذا التفريق الذي نذكره بين العنوانين ليس مسألة اختلاف في الألفاظ أو العناوين بل له واقع وحقيقة من خلال المواقع والوظائف التي له الحق في التصدي لها، إذ ليس لغير من ينطبق عليه عنوان نائب المعصوم (عليه السلام) ولاية أمر المسلمين أو قيادة الأمة أو اتخاذ القرارات العامة ما لم يتحمل مسؤولية العنوان ويتحرك به في تمام ما يقتضيه من وظائف ولا يكفي فيه مجرد الادعاء.

          ونحن نلقي عليكم هذه الأفكار لأننا نعتقد أن مستوى الثقافة والوعي الإسلامي العام قد تقدم كثيراً بفضل الله تبارك وتعالى ونحن تحدثنا على هذا المستوى، إلا أننا لم نتعمق في مستوى الاستدلال الفقهي لأنه موكول إلى محله.

          لقد ضرب لنا سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مثلاً لتنوع الأدوار التي يؤديها نائب الإمام في حياة الأمة مضافاً إلى الإفتاء وكتابة الرسالة العملية ورعاية شؤون الحوزات العلمية من تهيئة الأمة وإعدادها لتحمل القضية المصيرية وهي التمهيد لدولة الإمام المهدي (عليه السلام) المباركة، ونشر الوعي الإسلامي والمعارف القرآنية وتهذيب الأخلاق وتغيير الواقع الفاسد ومواجهة السلطات الظالمة وتحقيق التكامل للأمة وتفجير طاقاتها، وقضاء حوائج الناس، واحتضان شرائحهم كافة ومخاطبتهم بما يناسبهم. وتشهد له بذلك أعماله المباركة وموسوعاته الفكرية الضخمة ومحاضراته القيمة ومواقفه المشهودة، وقلّما يجود الزمن بمثل من يقدّم هذا العطاء الثرّ، فعند الله نحتسبه، وحشره الله تعالى مع أجداده الطاهرين وحسُن أولئك رفيقاً.

 



([1]) الخطبة الأولى لصلوات الجمعة الموحدة في مدن العراق يوم 29/شوال /1431، المصادف 10/10/2010 في الذكرى الثانية عشرة استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره).

([2]) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، ح1.

([3]) بحار الأنوار: 2/36 باب 9، ح38، ومستدرك الوسائل، ج17، ح21443.

([4]) بحار الأنوار: 1/201.

([5]) مفاتيح الجنان، فضل زيارة الكاظمين (عليهما السلام).