(قبس 113) فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً -من لا يقدّم ما عليه في طاعة الله تعالى يعطي أكثر منه في معصيته

| |عدد القراءات : 2509
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم 

(فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)([1]) [الأنفال: 36]

من لا يقدّم ما عليه في طاعة الله تعالى يعطي

أكثر منه في معصيته

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال/36)

وردت الآية في سورة الانفال ضمن سياق الحديث عن معركة بدر وملابساتها ونتائجها، وتشير الى حماقة وجهل وسوء عاقبة مشركي قريش الذين كفروا وتمردوا واستكبروا عن الايمان بالله تعالى وطاعته ورفضوا تكاليفها لكنهم أصروا على عبادة الاصنام وأنفقوا اموالاً ضخمةً لتجهيز المقاتلين([2]) للقضاء على النبي (’) وأصحابه المؤمنين وانهاء دعوته المباركة.

 فالأموال التي بخلوا بها ولم ينفقوها في طاعة الله تعالى لم ينتفعوا بها فقد انفقوها في الصد عن سبيل الله تعالى سواءاً بالحرب على المؤمنين او بمنع إقامة شريعة الله تعالى او بإبعاد الناس عن الدين ونحو ذلك من اشكال الصد عن سبيل الله تعالى فكانت عليهم حَسْرَةً في الدنيا لأنهم صرفوها في مضرتهم وجلب العار لهم او تركوها لذريتهم ولم تنفعهم إذ غُلبوا وهزموا ثم الحسرة الأكبر والعاقبة الأفظع في

الاخرة حيث يساقون الى جهنم بكل إهانة وتعذيب.

وظاهر الاية ان كونهم كافرين يدفعهم الى هذا الفعل وكما قالوا ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فان كفرهم هذا سبب وعلة تدعوهم الى هذا الظلم والفسق ويؤدي بهم الى جهنم التي هي حصاد افعالهم (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) والحشر لغةً (إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم الى الحرب ونحوها ولا يقال الحشر إلا في الجماعة) كما عن الراغب في المفردات.

فتجمّعهم في الدنيا ضد الحق وأهله وخروجهم حاشرين لمحاربة الله ورسوله تجسّم بخروجهم حاشرين الى جهنم افعالهم يوم القيامة.

فالآية تكشف عن حقيقة مهمة في حياتنا لو التفتنا اليها بعمق ووعي لأثّرت في توجيه الناس نحو الصلاح وخلاصتها ان من يمتنع عن بذل ما يتطلبه الايمان وطاعة الله تعالى فأنه سيضطر الى ان يعطي أزيد من ذلك راغماً في معصية الله تعالى فتجتمع عليه الحسرة والعقوبة لكن هذه الحسرة لا قيمة لها ولا ثمرة فيها لأنها جاءت في غير وقت العمل والتدارك.

هذه الحقيقة القرآنية لا تختص بالكافرين، فقد يبخل المتدين الذي يصلي ويصوم لكنه لا يدفع الحقوق الشرعية فيبتلى بصرف ماله في أمور عبثية أو لهوية او كمالية او ربما محرمة فتكون الحسرة عليه مضاعفة لتقصيره في إداء الواجب عليه من جهة ولإنفاق المال في ما يوجب له حسرة وعقوبة بالنار من جهة أخرى عن الصادق (×) قال: ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما مـن رجـل يمنـع حقـاً فــي مالــه إلا طوّقـه الله بـه حيـة مـن نـار يـوم

القيامة)([3])، وعنه (×): (من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)([4])..

او انه يتركه لورثته فيكون سبباً لحسرته على نحو اخر، روي عن الامام الصادق (×) في تفسير قوله عز وجل [كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ] (البقرة:167)، قال (×): (هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)([5]).

وقد وصف أمير المؤمنين (×) مثل هذا الرجل بقوله: ( إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)([6]).

ويُفهم من بعض الروايات ان ما يتعرض له المال احياناً من سرقة او تلف انما هو بسبب عدم اخراج الزكاة والخمس ونحوهما من الحقوق الشرعية، وورد عن أمير المؤمنين (×) قوله (قد يبتلي الله المؤمن بالبلية في بدنه او ماله او أهله، ثم تلى هذه الآية (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَـن

كَثِيرٍ ) (الشورى/30).

كما لا تختص هذه الحقيقة بالأموال وانما تتعداها الى ما تتطلبه طاعة الله تعالى من أصغر شيء كالتكاسل عن أداء عمل عبادي معين او حضور في مجلس ذكر أهل البيت (^) او السعي لقضاء حاجة مؤمن فانه يبتلى بإمضاء ذلك الوقت والجهد في غير طاعة الله تعالى في أمور عبثية ومُضيعة للوقت او ما هو أسوء من ذلك فتجتمع عليه الحسرة في الدنيا لإضاعته فرصة الهداية واكتساب الجنان المتاحة لهم والندامة والعقوبة في الأخرة، وهكذا في كل أمر راجح شرعاً او عقلاً، خذ مثلاً بعض الأمهات يتثاقلن عن ارضاع اولادهن الصغار تكاسلاً او حفاظا على رشاقتها ونحو ذلك وتعطيه حليبا صناعيا فيبتلى الطفل بآثار سلبية كالمغص ونحو ذلك ما تتمنى معه الام لو ارضعت طفلها وارتاحت من هذا البلاء.

وتمتد تطبيقات هذه الحقيقة الى كل المستويات فعلى صعيد الزعامات والقيادات المتبعة رأينا كثيراً من الناس يتبعون قيادات ما انزل الله بها من سلطان وربما تصل الى مستوى اتباع يزيد والمقبور صدام وأمثالهما من أجل فتات دنيا زائلة وتترك طاعة الله ورسوله والحجج المعتبرة والنتيجة خسران الدنيا والأخرة قال تعالى (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/165-167) فالآية تقول: ليت هؤلاء الذين ظلموا انفسهم ولم يتبعوا الحق وظلموا الحق نفسه إذ خذلوه ولم ينصروه يرون عاقبتهم السيئة والمؤلمة حين يجتمع الاتباع مع القادة الظالمين يوم القيامة حيث يتبرأ هؤلاء القادة من اتباعهم وتنقطع بينهم الاواصر والعلاقات ولا يجدون عندهم نفعاً ولا يدفعون عن انفسهم عذاب جهنم وكل عذاب فضلاً عن اتباعهم فيكتشف الاتباع عجز قادتهم وزعاماتهم وضلالهم وستصيبهم حسرةٌ بسبب اتباعهم وطاعتهم لقادة مزيفين وسيتأكدون من حقانية ما كان يقوله الله تعالى ورسوله (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ولم يكن لهم إلا تمني العودة الى دار الدنيا للعمل بما اكتشفوه من الحقيقة (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا) (البقرة/167) لكنه تمني  باطل لا يتحقق لانهم أعطوا الفرصة الكافية في الدنيا وقد كانت هذه الحقيقة ماثلة امامهم بما اخبر به الله تعالى ورسله لكنهم حجبوا بصائرهم عن رؤيتها بغفلتهم وجهلهم واتباع شهواتهم وتضليل شياطين الانس والجن، ومع ذلك فهم غير صادقين في تمنيهم هذا (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) (الأنعام/28)

      هذا على صعيد الزعامات والقيادات الباطلة وأتباعهم من غير المؤمنين لكن هذه الحقيقة لها مستويات داخل المتدينين ايضاً، فقد يفضل الشخص الرجوع الى الجهة التي تحافظ على راحته ومصالحه وتداهنه او لأنها تعطيه ما يشتهيه ويوافق هواه ويدغدغ عواطفه، او لأنها لا تكلفه جهداً أو حركةً، ويترك القيادة الحقة التي تذكره بالله تعالى وتعمل على إعلاء كلمة الله تعالى وصلاح الأمة والارتقاء بها لأنها تتطلب جهاداً للنفس وحركة وعزيمة، ونتيجةُ اختياره هذا نسيان ربه شيئاً فشيئاً وميله الى الدنيا والانشغالات التافهة ونقصان وعيه ودينه حتى يتحول الى شكليات وطقوس فارغة من المحتوى فتكون حسرة عليهم لانهم لم يستثمروا فرصاً كانت ستكسبهم درجات عالية في الجنة.

     وترتقي تطبيقات الآية حتى تصل الى مستوى بذل النفس فأن الأمة لما تخاذلت عن نصرة أمير المؤمنين (×) وتقاعست عن نصرة الامام الحسن(×) أُبتليت بإمارة معاوية الذي جاء الى الكوفة بعد صلح الامام الحسن (×) فخطب في أهلها الذين قاتلوه في صفين وأُزهقت أرواح عشرات الألاف من الفريقين فقال في كلامه (والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون)([7]).

ولما لم تفي الأمة للإمام الحسين (×) بوعود النصرة وبخلت بالنفوس عليه وانقلبت لتقاتله فكتب عليها الذلة والخنوع وتسلط الأشرار من أمثال يزيد وابن زياد والحجاج وغيرهم من الطواغيت فقتلوا من خيرة ابناءها ما زاد على الثمن الذي كانوا سيدفعونه لو نصروا الحسين (×) وازالوا حكم الطواغيت وتنعموا بعدالة حجة الله تعالى ودولته الكريمة، وقد حذرهم الامام الحسين (×) من هذه النتيجة وألقى الحجة عليهم في خطابه يوم عاشوراء وكان مما قاله (×) (فأصبحتم إلباً لأعدائكم على اوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، أهؤلاء تعضدون وعنها تتخاذلون؟ ويلكم! أتطلبونــي بــدم أحــد منكـم قتلتـه، أو بمـال استملكتـه، أو بقصـاص مـن

جراحات استهلكته)([8]).

وقال (×) (اما والله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور)([9]) اذن لما امتنعوا عن القيام بواجب النصرة للإمام الحق لم يحصلوا على ما أرادوا من الدعة والراحة وسرعان ما دفعوا الثمن الذي حذرهم منه غالياً.

وقال زهير بن القين في خطبته (فأنكم لا تدركون منهما – يزيد وابن زياد – الا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان اعينكم ويقطعان ايديكم وارجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل ويقّتلان اماثلكم وقراءكم أمثال حجر ابن عدي واصحابه وهاني ابن عروة واشباهه).

لاحظ كيف تحول بخلهم بالتضحية الواجبة في سبيل الله الى نصرة للأشرار وسقوط مريع في تلك الجريمة البشعة والعاقبة المرعبة.

وخذ مثالا نعيشه اليوم وهو التصدي البطولي للمجاهدين والمتطوعين لصد الهجمة الهمجية للدواعش والإرهابيين الذين أعلنوا بصراحة انهم قادمون لنقض العتبات المقدسة في النجف وكربلاء واحتلالها وغرّهم سقوط الموصل وتكريت في يومين بأيديهم، فنهض المؤمنون الغيارى في وجوههم واسترجعوا منهم ما اغتصبوه وطهرّوا الأرض من رجس وجودهم وكلّفنا ذلك شهداء كرام وجرحى اعزاء لكن الثمن سيكون اضعافه لو تقاعسنا ولم نقم بهذا الواجب.

والآية أيضا بصيغة المضارع الذي يعني استمرارية الحالة أي ان الذين كفروا وأعداء الإسلام من الطواغيت والقوى المستكبرة وذيولهم واتباعهم ومنفذي خططهم سيستمرون في انفاق أموالهم للصد عن سبيل الله بكل الأساليب التي اشرنا الها اختصارا، وشواهده كثيرة في زماننا لكن النتيجة تكون واحدة دائما وقطعية وهي الخسارة والحسرة ونشاهد هزيمتهم باستمرار بأذن الله تعالى .

كما ان هذه الحقيقة التي استفدناها من الآية جارية مدى الزمان فلا يقصّر احد في القيام باي عمل راجح شرعاً او عقلاً وليس فقط فعل الواجبات وترك المعاصي، بل المستحبات أيضا وكل عمل انساني، لأنه ان قصّرَ خسر هذه الفرصة للكمال والسمو والفلاح وسوف لا يحصل على النتيجة التي أرادها بل يقع في عكس ما كان يريدهُ، هذه النتيجة اخبر عنها الامام الحسين (×) بقوله: (مَنْ حاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى كانَ أَفْوَتَ لِما يَرْجُو، وَأَسْرَعَ لمجيء ما يَحْذَرُ)([10]).

وبالعكس فأن من يجاهد نفسه ويتخلى عن مشتهياتها وما تمنيه به من السعادة والراحة الموهومة فان الله تعالى يعّوضه عن صبره ومجاهدته بما يُقرّ عينه حقيقةً وليس زيفاً كالذي ورد في النظر الى المحرمات، روي عن النبي (’) وهو يحدث عن ربه (النظرةُّ سهم مسموم من سهام أبليس، من تركها من مخافتي أبدلته ايماناً يجدُ حلاوته في قلبه)([11]) فلاحظ التعبير بالابدال الذي يعني الحقيقة التي ذكرناها .

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(ق/37)، (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (الحاقة/12).

 



الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1437 الموفق 6/7/201. ([1] )

في تفسير البرهان: 4/164: (وما بقي من عظماء قريش إلا اخرجوا مالاً وحملوا ووقروا. ([2] )

وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1. ([3] )

نفس الباب، ح2.  ([4] )

وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 5 ح5. ([5] )

نهج البلاغة، باب الحكيم، رقم 429. ([6] )

حياة الامام الحسن 2 / 254. ([7] )

تاريخ الطبري: 5 / 425، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 64. ([8] )

الصحيح من مقتل سيد الشهداء واصحابه : 656، 664، 665. ([9] )

 الكافي 2 : 373 ح 3 ، تحف العقول : 177 ، بحار الأنوار 78 : 120 ح 19 وفيهما اسرع لما يحذر و 73 : 392 ح 3 ، معادن الحكمة 2 : 45 ح 101 ، وسائل الشيعة 11 : 421 ح 3 . ([10] )

ميزان الحكمة: 9/4. ([11]