الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة

| |عدد القراءات : 3063
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 

بسمه تعالى

 الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة(1)

 

من الأسماء الحسنى (اللطيف)ومنشأه أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما دقّ وصغر وشف بحيث تعجز العين عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبعُد حتى عن خطرات الظنون، وهو لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وفي الحديث (الله لطيف لعلمه بالشيء اللطيف).

الثاني: من اللطف وهو الرفق، والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم.

ويمكن إرجاع أحد المعنيين إلى الآخر، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها ولذا قيل (وكم لله من لطف خفي).

واللطف في المصطلح هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار ولذا ورد في الرواية ( لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك).

وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فوجوده لطف إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.

 والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، لذا ورد في مناجاة الذاكرين(ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على السنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك).

ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة التي نعيش عبق ذكراها، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح ولو لم يبعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه  فكيف إذا طال بهم الأمد إلى اليوم  من تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل الذي نعاصره.

فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً ـ كآية القطع في السرقة ـ فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم(اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف حبلي القرآن والإمامة؟

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك(اللطيف):

1ـ إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة  ويبعدهم عن المعصية، قال تعالى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)(الحجرات/7) وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.

وقد مرّت علينا في الأسبوع الماضي ذكرى وفاة الإمام الكاظم(عليه السلام) ورأيتم قد زحفت الملايين رغم الحر الشديد الذي تجاوزت فيه درجة الحرارة نصف درجة الغليان ـ كما وصفت بعض القنوات ـ في الظل أما في الشمس فتتجاوز 70 درجة مئوية ورغم عمليات القتل الذي نفذها المجرمون طيلة ثلاثة أيام المناسبة، ومع ذلك لم يتوقف هذا الزحف المبارك، فهذا كله ناشئ من هذا التزيين الذي لطف به الله تبارك وتعالى.

 فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم ويحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، وليعرف من يعمل على عكس ذلك أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.

وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.

إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة(اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره  ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، وأنتم كذلك يا طلبة الجامعات الذين قضيتم دورة سريعة في العلوم الدينية في رحاب الحوزة العلمية في النجف الاشرف خلال العطلة الصيفية فتزودّتم بما يعينكم على هداية الناس وتقريبهم للطاعة.

2ـ إن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه نفسه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهرهذا ـ فيما ظهرـ في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين(سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للائمة (عليهم السلام) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وحينئذٍ فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية، أو انه لا توجد مرجعية نقلدها، أو أن لدينا فقه يكفينا لكذا من السنين فلا نحتاج للرجوع إلى احد، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا الاسم من الأسماء الحسنى والعياذ بالله. 

 



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع طلبة الجامعات الذين انتظموا في دورات سريعة خلال العطلة الصيفية لتحصيل العلوم الدينية في الحوزة العلمية في النجف يوم الأحد 28/ رجب/1431 المصادف11/7/2010.