خطاب المرحلة: (364) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض

| |عدد القراءات : 2190
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض)(1)

لما عقد القوم العزم على الانقلاب على وصية رسول الله (صلى الله عليه واله) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وواجهوا النبي (صلى الله عليه واله) بذلك الكلام القاسي الذي فيه اعلان الحرب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله) عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجر)، جمع النبي (صلى الله عليه واله) أهل بيته خاصة وقال لهم (أنتم المستضعفون من بعدي).([2])

وظاهر الحديث أنه إخبار بأمر محزن ومؤلم بأن زعماء الانقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، وفيه إشارة إلى أن فعل القوم سيشابه فعل فرعون في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/4)، واستشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول هارون أخي موسى (ع) (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي) (الأعراف/150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله) فالتفت إلى قبر النبي (صلى الله عليه واله) وخاطبه بالآية الشريفة.

ولكن للحديث معنىً آخر متفاءل فيه وعد بالنصر والتمكين واستعادة الحق لأهله، لأن وصف أهل بيته بالمستضعفين بل حصر الوصف بهم (عليهم السلام) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، يجعلهم المقصودين بالآية الشريفة (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/5) وقال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف137)

وكان الأئمة (عليهم السلام) يبشرون شيعتهم بهذا المعنى، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله يقول (إن رسول الله (صلى الله عليه واله) نظر إلى علي والحسن والحسين (عليهم السلام) فبكى، وقال: أنتم المستضعفون بعدي) قال المفضّل فقلت له: وما معنى ذلك يا ابن رسول الله قال معناه: أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة).([3])

وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها –أي امتناعها- عطف الضروس على ولدها، ثم تلى الآية.

وقال سيد العابدين علي بن الحسين (ع): (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه).([4])

فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً).([5])

وعنه (عليه السلام) قال (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد).([6])

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ومواليهم وسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من المنظومة الإسلامية، فإن مجرد دعوى الانتساب إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وانتحال صفة التشيّع لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين، لأن الذين وُعدوا بذلك لهم خصائص وخصال يجب أن تتوفر فيهم ذكرتها الآية الشريفة، قال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/39).

ثم قال تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج/41).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1-    (أقاموا الصلاة) فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها والمواظبة عليها وجعل الصلاة كياناً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة عليه، وأوضح مصداق لهذا الكيان صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.

2-   (وآتوا الزكاة) بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

3-   (وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

وأمروا بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً تعارف عليه الناس ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم وسيرتهم العطرة.

هؤلاء هم من ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض، وليس من أشارت إليهم آية أخرى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23).

كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة تحت عناوين إسلامية عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي نسمع عنه في بغداد وغيرها، وهذا كفر عظيم بالنعمة، ومن الغريب أن يفتتح مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013([7]) فعالياته وهي حفلات غنائية تزامناً مع إحياء الموالين لذكرى استشهاد الصدّيقة الزهراء (ع) وإقامة شعائرها المباركة.

 



([1]) من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع  جمع من الجمعيات الخيرية والثقافية في الكوت والزعفرانية في بغداد والغراف وطلبة كلية الطب في جامعة البصرة يوم الخميس 9/ج1/1434 المصادف 21/3/2013.

([2]) تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140-143) و (الإرشاد:96-100) وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع): 2/72 باب31 ح303.

([3]) معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.

([4]) مجمع البيان: 4/375.

([5]) نهج البلاغة، الخطبة  192.

([6]) نهج البلاغة، الحكمة 289.

([7]) تم الافتتاح في 23/3/2013 المصادف 11/ج1/1434 بحضور كبار مسؤولي الدولة ووزراء الثقافة العرب وأمين عام الجامعة العربية.