خطاب المرحلة (335)... لا تُقبل الدعوى إلا بدليل

| |عدد القراءات : 3110
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تُقبل الدعوى إلا بدليل([1]) 

          ما دمنا نعيش أجواء الولادات الشعبانية المباركة للأئمة المعصومين الأطهار (عليهم السلام) فلنأخذ درساً من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)..

          فمن دعائه (عليه السلام) يوم عرفة (إلهي.. ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي) هذه هي الحقيقة المُرّة التي لا يلتفت إليها الإنسان، وهي أنه يدّعي كثيراً من الأمور، من دون أن يقيم الدليل عليها ليطمئن هو أولاً على مصيره ومستقبله وليصدّقه الآخرون ثانياً، والأسوأ من ذلك أن يطلب من الآخرين معاملته على أساس هذا العنوان المدعى ويرتّبوا عليها الآثار، في حين يجمع العقلاء على أن أي دعوى لا تثبت إلاّ بدليل.

          من وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (يا هشام لكل شيء دليل، ودليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت)([2]).

          وقد جرت سيرة العقلاء على مطالبة المدعي بالدليل لتصديقه، كمن يدعى أنه حصل على شهادة الدكتوراه في العلم الفلاني فإنه يطالب بالوثائق التي تثبت ذلك.

          فالإمام الحسين (عليه السلام) يكشف في الفقرة المتقدمة عن مظهر من مظاهر النقص لدى الإنسان، وهو إدعاؤه لعناوين ومقامات ومراتب من دون أن يجسِّد في واقعه حقائق تلك الإدعاءات أو تظهر عليه آثارها، ولنترك الآن العناوين الكبيرة كالمرجعية والأعلمية والقيادة والولاية ونحوها، ولنأخذ عناوين عامة.

          مثلاً يعتقد أنه مؤمن متدين ويمنّي نفسه الفوز بالجنة ورضا الله تبارك وتعالى من دون أن يتأكد من وجود هذه الحقيقة في نفسه بحسب ما تعرضه الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تتحدث عن حقيقة الإيمان، وتبيّن شروطه كقوله تعالى [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف:110) فبلوغ هذه النهاية السعيدة تتطلب القيام بأعمال صالحة من دون أن يخالطها ما ليس لله تبارك وتعالى من النيات المختلفة كنيل رضا الناس أو تحصيل المال أو أي مكسب دنيوي آخر.

          وقال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19) فهنا شروط لمن يريد أن يكون سعيه مشكوراً في الآخرة شرحناها في حديث سابق، وهي باختصار:

(أولاً) أن تكون له إرادة قوية وقصد جدّي وعزم راسخ –فمن أراد الآخرة-

(ثانياً) أن يكون له عمل دؤوب وحركة مستمرة  عُبِّر عنها بالسعي وهو السير الحثيث الذي يناسب النتيجة التي يريد أن يصلها –وسعى لها سعيها –

(ثالثاً) أن يكون مؤمناً بالله ورسوله عارفاً بالطريق الموصل إلى الله تعالى وسائراً عليه ولا يتخبط ويسير بغير هدى –وهو مؤمن-.

          ومن كلمات الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المجال قوله (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب أبعد الخلق منه في الله ويبغض أقرب الخلق منه في الله)([3])، فهل نحن كذلك أم نحابي ونجامل ونداهن؟

          والمثال الآخر للدعاوى التي لم نتحقق من مصداقيتها عندنا دعوى (التشيع)، فللأئمة (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في بيان حقيقة التشيّع والشيعة، جمع منها الشيخ الصدوق (71) حديثاً في كتيب سماه (صفات الشيعة)، وتوجد أحاديث كثيرة غيرها، وقد جمعت بعضها في خطاب سابق بعنوان (عناصر شخصية المسلم في روايات أهل البيت (عليهم السلام))([4]).

          منها ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) (ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء)([5]).

          ومنها قول الإمام الصادق (عليه السلام) (إنما شيعة علي من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)([6]).

          ولأجل ذلك نهى الأئمة المعصومون (عليهم السلام) عن ادّعاء ما لم تستكمل حقيقته، عن الإمام الحسن (عليه السلام) –في جواب رجل قال له: إني من شيعتكم-: يا عبد الله، إن كنتَ لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقتَ، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لستَ من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم، ومعادي أعدائكم، وأنت في خير وإلى خير)([7]).

          وهذا ما وعظنا به الله تعالى قال سبحانه [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (آل عمران:188).

          وورد هذا الأدب في الدعاء الذي يدعو به من يمدحه الآخرون، لأن المدح غالباً يتضمن مبالغة في الصفات الحميدة مما ليس بواقع، وجاء فيه (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون).

          وكان السلف الصالح لا يكتفي بالامتناع عن ادعاء العناوين والصفات الحميدة، بل يكره أن يوصف بها لأنه يتهم نفسه بعدم الاستحقاق، ففي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (قيل للصادق (عليه السلام) أنّ عمار الدهني (والد الراوي المعروف معاوية بن عمار) شهد اليوم عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادة فقال له القاضي: قم يا عمّار فقد عرفناك لا تقبل شهادتك لأنّك رافضي، فقام عمّار وقد ارتعدت فرائصه واستفزعه البكاء، فقال له ابن أبي ليلى: أنت رجلٌ من أهل العلم والحديث، إن كان يسوؤك أن يقال لك رافضيّ فتبرّأ من الرفض فأنت من إخواننا، فقال له عمّار: يا هذا ما ذهبت والله حيث ذهبت ولكن بكيت عليك وعليّ، أما بكائي على نفسي فإنّك نسبتني إلى رتبة شريفة لست من أهلها زعمتَ أنّي رافضي، إلى أن قال: وأمّا بكائي عليك فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي، وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله إن صرفت أشرف الأسماء إليّ وان جعلته من أرذلها كيف يصبر بدنك على عذاب كلمتك هذه؟ فقال الصادق (عليه السلام): لو أنّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين لمحيت عنه بهذه الكلمات)([8]).

          وقد ذكر الشيخ الصدوق([9]) (قدس سره) أن مثل هذا الموقف حصل لعدد من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كأبي كهمس وابن أبي يعفور وفضيل سكرة.

          إننا مبتلون في هذا الزمان وفي كل زمان بأدعياء العناوين الكبيرة كذباً وزوراً ليطلبوا بها الدنيا وليخدعوا السذج والجهلة والمهوسين، وأذكر من هؤلاء أصحاب الدعوات المرتبطة بالإمام المهدي الموعود (عليه السلام)، والسياسيين الذين يحملون اللافتات الإسلامية، [فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً] (النساء:9)، وليستفيدوا من هذا الدرس الحسيني المبارك.



([1]) حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة والشباب، الذين أُعدَّ لهم برنامج ديني وتوعوي في النجف ومنها زيارة سماحته يوم الأحد 10 شعبان 1433 المصادف 1/7/2012، ثم الانطلاق مشياً إلى كربلاء المقدسة لإحياء الزيارة الشعبانية المباركة.

([2]) تحف العقول: 285.

([3]) تحف العقول: 272.

[4] راجع خطاب المرحلة: 1/ 305.

([5]) تحف العقول: 215.

([6]) الكافي: 2/ 233 ح9.

([7]) منتخب ميزان الحكمة: 356عن تنبيه الخواطر: 2/606.

([8]) بحار الأنوار: 68/ 156.

([9]) من لا يحضره الفقيه: ج3، باب نوادر الشهادات، ح152، معجم رجال الحديث: 12/276.